برلمان حسب الطلب في الأردن

إن كان التندر على دور مجلس النواب يمثل نتيجة طبيعية لتأثيراته المحدودة منذ عقود، فالطبيعي ألا يكون كذلك بعد الآن، وإلا فالمشهد لا بد وسيخرج من دائرة السخرية المرة الى فضاء الانتباه واليقظة وإعادة النظر.
لا بد من مناداة البرلمان ليتولى دوره الدستوري أو يبقى على شكل ديكور
قلة قليلة في الأردن لم تتفاجأ بخبر صفقة المياه مقابل الطاقة مع اسرائيل

ما هذه المصادفة بين بدء البرلمان الأردني انعقاده في دورة مكرّسة لمناقشة إصلاح الحكم والسياسة في المملكة، والإعلان عن صفقة "المياه مقابل الطاقة" مع إسرائيل؟
على الأغلب هي صدفة بحتة ولا يبدو أن للتزامن بين الحدثين غاية مقصودة، لكنها في الجانب الآخر مصادفة محرجة للنظام السياسي بأكمله، وكاشفة أيضا عن الفرق بين الديكورات الجانبية وأجهزة الحكم الفعلي او ما اصطلح على تسميتها "أعلى المستويات".
قلة قليلة في الأردن لم تتفاجأ بخبر الصفقة القائمة على إنتاج 600 ميغاوات من الطاقة المتجددة في المملكة لصالح إسرائيل مقابل مئتي مليون متر مكعب من المياه سنويا، في اتفاق لا سابق له من حيث الأهمية الاستراتيجية منذ توقيع معاهدة وادي عربة في 1994.
وزراء ليس لديهم علم بالاتفاق. الناطق الرسمي باسم الحكومة ينفي الخبر قطعيا في أول النهار ويؤكده وزير آخر بعد ساعات. وزير المياه يقول ان "إعلان النوايا" الموقّع على هامش معرض إكسبو دبي تم التفاوض عليه خلال 24 ساعة فقط، انطلاقا من فكرة إماراتية.
ظلت وسائل الإعلام الأردنية، على مدى أسبوع، تنشر أخبار الاتفاق نقلا عن صحف ومواقع أجنبية وإسرائيلية، والحكومة تلوذ بالصمت. وهو بطبيعة الحال خيارها الوحيد والمعهود الذي ارتضته لنفسها حين غابت أو غُيبت عن مهامها الرئيسية، ومنها صفقة بهذا الحجم والأهمية.
يمكن تلخيص المشهد في عيون "أعلى المستويات" في المملكة على النحو التالي: حجم الصفقة وهدفها وتأثيراتها أكبر من الحكومة وأكثر حساسية من أن تُطرح على الرأي العام قبل توقيعها منعا لأي تشويش مسبق لا داعي له مع ما يرافقه من الاتهامات بالتطبيع والتخوين والارتهان لدولة الاحتلال.
أما وقد تم الاعلان عن الصفقة باعتبارها اتفاقا بين حكومتين، فلا بد من مناداة البرلمان الآن ليتولى دوره الدستوري في الرقابة على أداء الحكومة واتخاذ زمام المبادرة للفصل في مدى حاجة البلد لهكذا اتفاق.
لا ينبغي أن يكون هذا النداء مثيرا للسخرية او الاستغراب أو محركا لصناعة الضحك رغم تجارب الأردنيين في العقود الأخيرة مع برلماناتهم التي أخفقت في أن تمثل نفسها كركن أساسي في منظومة الحكم واستمرأت التبعية التامة للسلطة التنفيذية.
لكن المستقبل السياسي للأردن بين يدي مجلس النواب الآن. والمفاصل الرئيسية لتحويل المملكة الى نظام الحكومات النيابية صارت في عهدة المجلس عبر حزمة التشريعات الناظمة للحياة السياسية، التي اقترحتها اللجنة الملكية ثم أقرتها الحكومة قبل أن ترسلها الى الجالسين تحت قبة البرلمان.
مطلوب من البرلمان في دورة الانعقاد العادية التي بدأت الاسبوع الماضي، أن يبحث تعديلات دستورية بالغة الأهمية ويقر قانوني الانتخابات والأحزاب السياسية، ليرسم ملامح نظام الحكم الذي يريده الملك عبدالله الثاني ويدعو إليه منذ سنوات.
وهكذا، إن كان التندر أو التهكم على دور مجلس النواب يمثل نتيجة طبيعية لتأثيراته المحدودة في العملية السياسية وصناعة القرار الوطني على مدى عقود، فالطبيعي ألا يكون كذلك بعد الآن، وإلا فالمشهد لا بد وسيخرج من دائرة السخرية المرة الى فضاء الانتباه واليقظة وإعادة النظر.
لا يعول كثير من الناس على إمكانات مجلس النواب في الاعتراض على الصفقة وإيقافها، وهو المجلس الذي وصفه رئيسه الحالي بالديكور قبل أكثر من سنة، وتراجع عن التسمية أخيرا بعد انتخابه على رأس السلطة التشريعية.
وإذا كان المجلس لا يرضى فعلا بمرتبة الديكور، وفي أسوأ الأحوال لا يستطيع التدخل مباشرة عبر استخدام صلاحياته في الرقابة على الحكومة، فلا يزال لديه أيضا هامش معقول للتحرك ضد الصفقة التي قوبلت بغضب واسع ومتوقع لدى الرأي العام الرافض بشدة للتطبيع مع إسرائيل التي ظلت علاقاتها باردة مع الأردن لأكثر من عشر سنوات قبل أن تسعى المملكة وخلفاء نتانياهو الى إنعاشها في دبي بالكهرباء والماء.
الى جانب الاستفادة من زخم الرفض الشعبي، في وسع مجلس النواب أيضا إذا لم يتعرض لـ"تدخل خارجي"، أن يفتح نقاشا عاما حول الوضع المائي الحرج للبلد والحلول بعيدة الأمد والخيارات الممكنة.
كما يستطيع البرلمان كجسم دستوري، وليس نوابا استعراضيين متفرقين، أن يجري دراسات ويستمع لخبراء ومختصين في المجال. ومن ذلك التصريح اللافت الذي أطلقه وزير سابق للمياه وأيّده أستاذ جامعي في بحوث المياه، بأن المخزون الجوفي للأردن يكفي لـ500 عام إذا توفرت الاستثمارات المناسبة.
سبق وأن أخفقت الحكومات المتعاقبة في اختبارات الثقة مع الناس، منذ تخلت عن مسؤولياتها في الولاية العامة على البلد وجعلت من وزرائها محض موظفين منفذين لإرادة الحكم وليس لهم دور حقيقي في رسم السياسات.
وفي حين تعلم الحكومات أيضا إن أعمارها قصيرة وتحت رحمة التغييرات والتعديلات الوزارية، فهي تشعر بأن مسألة الثقة الشعبية لا تعنيها كثيرا مثلما لا يعرف الأردنيون الأسباب التي أدت إلى ذهاب حكومة ومجيء أخرى خلال سنة أو سنتين.
أما مجلس النواب، ورغم ضعفه التمثيلي، فهو أمام خيارين: النهوض بالحد الأدنى من مسؤولياته عن رسم مستقبل الحكم وتشريعاته أو أن يلعب دورا هامشيا بروتوكوليا. وينسحب ذلك أيضا على صفقة المياه مقابل الطاقة مع اسرائيل.