بلير وهو عنوان الجريمة المغلفة بالخفة السياسية

مَن اختار بلير لرئاسة لجنة تهجير أهل غزة كان قد رأى فيه مجرم حرب يعرف كيف يُغطي نفسه بثياب السياسي الظريف.

كان من الإنصاف أن يمثل توني بلير أمام محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية باعتباره مجرم حرب. شيء من ذلك القبيل لم يحدث لأن منطق القوة هو السائد. وليست محكمة العدل استثناء في ذلك.

عام 2017 رفضت المحكمة البريطانية العليا طلبا لتقديم بلير لمحاكمة خاصة بسبب دوره في حرب العراق لأنه لا يوجد في قوانين انكلترا وويلز شيء يتعلق بجريمة عدوان. بالرغم من أن لجنة شيلكوت البريطانية كانت قد أدانته عام 2016 بسبب دوره في غزو العراق من غير سند قانوني.

توني بلير نفسه سبق له وأن اعتذر لكن ذلك الاعتذار جاء في سياق ما ارتكبته حكومته من أخطاء أدت بالعراق إلى الانحراف عن المسار الديمقراطي ووقوعه تحت هيمنة الأحزاب الدينية. أي أنه لم يعترف أن هناك جريمة حرب قد أُرتكبت وكان في مقدمة مرتكبيها.

اليوم يعود أسمه إلى الواجهة. هناك ما يتردد في الأخبار من أنه سيتولى رئاسة فريق تدور مهمته حول إقناع دول عربية ياستقبال لاجئين من قطاع غزة بعد انتهاء الحرب. وهو هدف إسرائيلي سبق لمصر والأردن وهما الدولتان المعنيتان بالمسألة أن رفضتاه بشكل مطلق.

وبالرغم من أن التهجير لا يحل مشكلة إسرائيل في غزة غير أنها تسعى من خلاله إلى كسب نقاط، في حرب كانت هي التعبير الأمثل عن الجنون المسعور الذي أصيبت به وهي تسعى إلى استعادة شيء من "كرامتها" التي هُدرت في السابع من اكتوبر الماضي. فكل هذا القتل لا يكفي. كل هذا الخراب لا يُشبع. تريد إسرائيل أن تضيف معجزة جديدة إلى معجزات بقائها شبيهة بما فعلته في عامي 1948 و1967 حين طردت شعبا أعزل لتستولي على أرضه وتسلمه إلى اللجوء.

في هذه النقطة لا تكمن المشكلة في إسرائيل فهي قوة عمياء. المشكلة في شخص توني بلير وهو مجرم حرب سابق لا يزال بالرغم مما واجهه من اتهامات يصر على أن لا ينظف يديه من دماء الشعوب. فبلير الذي زار إسرائيل مؤخرا من غير أن يكون له منصب رسمي يؤهله للقيام بذلك هو شخص يميل إلى ارتكاب الجريمة وهو ما يمكن أن يكون سندا لعرضه على أطباء متخصصين بالانحرافات العقلية ما دامت محاكمته كمجرم حرب قد عكرت مزاج القانون البريطاني.

ولو عدنا إلى سنة 2003 لتعرفنا على أصل اللوثة التي أصيب بها بلير. صحيح أن الرئيس الأميركي يومها جورج بوش الإبن كانت قد تمكنت منه رغبة شخصية في التخلص من صدام حسين مدفوعا بأساطير دينية حاول الإعلام الأميركي أن يخفيها فيما بعد غير أن توني بلير وكان رئيسا لوزراء بريطانيا كان هو الأشد حماسة منه لإحتلال العراق. كان يود لو أن القوات البريطانية تزحف إلى الأراضي العراقية قبل وصول القوات الأميركية. وكان مشهد عملاء بريطانيا العراقيين وهم يهبطون من المروحيات البريطانية في النجف والناصرية جزءا أصيلا من برنامج الحملة البريطانية الدعائي.

لم يعتذر بلير للعراقيين عما سببه الغزو لبلادهم من خراب، بل اعتذر للبريطانيين عن الأخطاء السياسية التي تخللت الحملة العسكرية الناجحة. ذلك أمر يعرف أنه لن يعرضه للمساءلة. فهو لم يضر بمصالح بريطانيا أما صورتها وهي تساهم في احتلال بلد بعيد بعد تدميره وإبادة جزء من سكانه وتهديم بنيته التحتية فذلك أمر يعيد بريطانيا إلى مجد تراثها الاستعماري. ولأن بلير هو الأكثر احتيالا وخداعا وتضليلا بين رؤساء الحكومات البريطانية في العصر الحديث فقد نجح في زيادة شعبيته من خلال تمرده على القانون.

وكما أعتقد فإن مَن اختاره لرئاسة لجنة تهجير أهل غزة كان قد رأى فيه مجرم حرب يعرف كيف يُغطي نفسه بثياب السياسي الظريف. وهو ما تحتاجه إسرائيل للخروج من مأزق حربها في غزة. فبلير يعرف أن إنقاذ إسرائيل من مأزقها لا يتم إلا من خلال جريمة، ستكون من وجهة نظره هامشا يمكن التلاعب به وبأسبابه. سيكون التهجير ضروريا من أجل أن تخرج إسرائيل منتصرة. نصر إسرائيل الوهمي هو أهم من الحقيقة. لا يتعلق الموضوع بعبث مريب بالجغرافيا، بل وأيضا بفرض رؤية مصغرة للتاريخ. هناك شعب يمكن أن يبدأ حياته في مكان آخر يقع بعيدا عن أرضه التاريخية.  

كان بلير مفاجأة بريطانيا في الخفة السياسية. بعده تحول 10 داوننغ ستريت بلندن إلى بيت لمَن هم أكثر خفة في التاريخ السياسي المعاصر ببريطانيا.