'بونابرته' رواية تاريخية ترى الحاضر في الماضي

نشأت المصري يتناول في روايته فكرة فقدان الأوطان لحرياتها حين لا تمتلك السلاح والعلم، متخذا من قصة غزو نابليون لمصر مثالا.

صدر عن دار النابغة للنشر والتوزيع بالقاهرة رواية "بونابرته" للكاتب الكبير نشأت المصري، وتدور الفكرة الرئيسية حول أن الأوطان التي لا تمتلك السلاح والعلم تكون عرضت للعدوان، وفقدان الاستقلال، وطبقت هذه الفكرة على حالة مصر إبان فترة الخلافة العثمانية، عندما حركت فرنسا أسطولها لغزو مصر في سرية تامة، حتى يتحقق عنصر المفاجأة، وحتى لا يعترضه الإنجليز الذين يأملون في احتلال مصر، لقد نجح الأسطول في الوصول إلى المياه الإقليمية لمصر.

بدأ الزمن الروائي في الأول من يوليو/تموز 1798، خيالي بين نابليون وبين البحر الأبيض المتوسط، حيث نبرة الاستعلاء الغربي في جملة نابليون: "المجد للرب ولنا والوهم لهم". وقد جاء مضمون رد البحر عليه: على أن البحار محايدة، وتخضع دائما للقوي، فكما خضع البحر بالماضي للفراعنة عندما كانوا أقوياء، خضع اليوم للفرنسيين لذات السبب، لقد جمد العثمانيون كل شيء، وأفقروا البلاد، وتركوا مصر فريسة تقسم ثرواتها بينهم، وبين المماليك، وبين الوالي، وعندما غاب العلم، تفشى الجهل، وسقط الوطن.

يقوم الغزو على بواعث الفكر الإجرامي لدى نابليون، حيث عقيدة المصلحة، فكما كان يلقي جنوده الذين يموتون فوق السفن في البحر للتخلص من الجثث، بنى خطته في عملية الغزو على قتل الشرفاء، وشراء المرتشون، وخداع الشعب بالوهم والدعاية الزائفة، والتي تقوم على الترويج بأن الاحتلال إنما قد جاء لحماية المصريين من ظلم الخليفة العثماني، في حين أن الهدف الحقيقي هو نهب الممتلكات المصرية وسبي النساء بدلا من المماليك.

أدب الفكرة: يتميز أدب الفكرة بضرورة توظيف كافة العناصر في صياغة النص الأدبي، وقد نجح المؤلف في زرع فكرة الرواية في العقل، وهذا الأسلوب يتكامل مع كل مكونات البناء الفني من أجل خلق لحظة التنوير الرئيسية، والتي تمثل صرخة مفادها أن هزيمة الأمم تبدأ عندما تتخلى الدول عن العلم، لأن مقابل ذلك هو انتشار الجهل، وفي ظل الجهل ترتكب كل الموبقات.

كانت دوافع الفعل لدى الشخصيات الروائية الرئيسية واضحة، فقد كانت شخصية نابليون عدوانية مراوغة، كذلك رجاله كليبر، ومينو، والضابط المترجم السكندر الذي يجيد العربية، كل الشخصيات تتحرك في اتجاه إشعال الصراع، حيث رغبة المحتل في السيطرة على مصر بالقوة.

وعلى الجانب الآخر قامت حركة المقاومة المصرية بالتصدي للغزاة منذ الثاني من يوليو/تموز 1708. لقد أشار حوار الزعيم محمد كريم مع مصطفى الخادم (ص 20 - 21) إلى أن الجميع مقصرون، المسؤولون لم يعلموا الشعب، هذا هو بيت القصيد، لأن الأمة التي تتخلى عن العلم تنهار، وهذا الأمر آفة الماضي والحاضر، لقد أهمل كل من: الوالي، والمماليك والخليفة العثماني والصدر الأعظم العلم، مما أدى إلى سقوط مصر في يد نابليون، ورغم التخلف لم تفتر المقاومة، فمقابل مقتل جندي فرنسي يموت عشرة مصريين على الأقل.

رغم أن المدافع دمرت حصون الإسكندرية، إلا أن محمد كريم لم يستسلم، قاد المعركة مع رجاله في الشوارع أمام قرابة 30 ألف جندي مدججين بالأسلحة الحديثة، تجلت عظمة الشعب المصري الذي يقاوم السلاح الحديث بالحجر والسكين، ولا يأبه أهل هذا البيت أو ذاك بموت من فيه من أطفال ونساء وشباب، الكل يحاول منع اغتصاب الوطن، ففي ظل الصراع غير المتكافئ يصعب رد الغازي مهما كانت التضحيات، هكذا تحرك العثمانيون بالشعوب نحو الخلف في ردة حضارية، أوقعت العالم الإسلامي في فخ الاستعمار.

'بونابرته'

لم تتوقف المعركة إلا باعتقال محمد كريم، حاول نابليون إغراءه بأن أبقاه حاكما للإسكندرية، لكنه رفض كل الإغراءات، ولجأ إلى الصحراء لإعداد المجاهدين، وقاد حركة واسعة في سبيل التحرير، إلى أن تم اعتقاله مرة أخرى في معركة دمنهور بواسطة كليبر، الذي أرسله إلى القاهرة، طبق نابليون الشق الأول في خطته بالخلاص من الشرفاء، بإعدام محمد كريم رميا بالرصاص في ميدان القلعة، بمحاكمة صورية يوم 6 سبتمبر/أيلول 1798. ومع هذا لم يتوقف الرجال عن المقاومة، التي تولى رايتها من بعده، مصطفى الخادم مع باقي أفراد الشعب المصري.

لقد نجح نابليون في تطبيق الشق الثاني من الخطة وهو شراء المرتشون مثل: البحار العثماني أو عثمان آغا، والجاسوس يعقوب الذي يبيع بالمال كل شيء، وعبدالحافظ المرابين الذي يقرض الفلاحين بالفائض، وبنت الشيخ بكري التي أصبحت من خليلات نابليون.

فشل الدعاية الكاذبة: لقد فشل الشق الثالث من خطة نابليون، لقد أفشلت الشخصيات الثانوية المهمشة في الواقع والرواية، فكرة بيع الوهم للشعب المصري، لم يصدق أحد دعايته الزائفة، لقد قال أحد الحفاة المصريين عندما سمع كلام نابليون، إنه يبث السم في العسل، كما أن هروب الطفل من الموت إلى نهاية الحارة المسدودة دلالة على الأفق المسدودة.

ويمثل القبض على الطفل عبدالعزيز الذي حاول سرقة بندقية من جيش الغزو، ليدافع بها عن بيته، نموذجا للدعاية الكاذبة، لقد قبض عليه الجند، ثم أفرجوا عنه ومنحوه قبعة فرنسية لتقييه حرارة الشمس، وطلبوا منه الذهاب إلى أهل قريته لطمأنة كل الناس هناك، لكن نابليون الخسيس أمر جنوده بالتسلل إلى ذات القرية بالمساء، لقتل من فيها وأولهم هذا الطفل. هذا المنطق هو نفس ما يقوم به جنود الاحتلال في غزة، فبعد طوفان الأقصى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قام الجنود الصهاينة بنفس الفعل، عندما منحوا الرجل العجوز زجاجة ماء ليشرب منها، وبعد أن تم بث الصور التي تظهر الوجه الإنساني لمجرمي الحرب، أغلقت العدسات، وقاموا بقتل العجوز. 

استمرار المقاومة: تكاتف كل أفراد الشعب للدفاع عن الوطن، لقد كان في تعاون زوجة مصطفى الخادم وابنته بهية مع الثوار، دلالة رمزية على الروح الوطنية، أما قيام الأهلي بقتل جوليان الذي يحمل رسالة نابليون للقبض على محمد كريم على بعد 30 كيلومترا من القاهرة دلالة على الصحوة الوطنية، لقد دارت المعركة الكبرى للاستيلاء على العاصمة يوم السبت 12 يوليو/تموز في إمبابة، عندما دارت رحى المعركة، بقي المهمشون يدافعون بأرواحهم، وهرب مراد بك مع المماليك نحو الصعيد، بينما هرب إبراهيم بك نحو الشرقية، فقط الشباب وجموع المصريين يقاومون بأسلحة بدائية، انتهت الجولة بسقوط الآلاف من المصريين مقابل 300 جندي فرنسي، دخل نابليون قصر مراد بك، لينعم بما فيه من خيرات يصعب الفرار بها، كل ما حدث أن الكنوز والجواهر، انتقلت من يد لص ضعيف إلى يد لص أقوى. بعد المعركة ذهب نابليون إلى الهرم يحتفل بنصره على أحفاد خوفو، وسلط مدافعه على أبوالهول، يريد أن يمحو هذه الحضارة.

الفكر الإجرامي: كل أهل الغرب في الجرم سواء، لقد قام الأسطول الإنجليزي بقيادة نيلسون بضرب الأسطول الفرنسي في بو قير أحد ضواحي الإسكندرية، وقتل نحو 4000 فرنسي بخلاف الجرحى، مقابل سقوط 300 جندي إنجليزي، وذلك من أجل منع الفرنسيين من سرقت مصر، لأنهم يريدون سرقتها لأنفسهم.

لقد أشار المؤلف إلى أن هذا الصراع العدواني هو منطق الغرب الاستعماري، لدرجة أن نابليون نفسه كان يستدعي إجرام أجداده الفرنسيين، ليطبق ما قاموا به من إجرام، ففي عام 1203 عندما حاصر فليب أغسطس قلعة إنجليزية لمد ثلاثة أشهر، حتى خرج منها ألف طفل وامرأة عجوز للبحث عن طعام، فما رحمهم أحد، وتركوهم عالقين يأكلون القطط والكلاب، لدرجة أن بعض النساء أكلن أطفالهن، إنهم يريدون ممارسة حرب الإبادة تلك ضد الشعب المصري. وهذا ما حدث بالفعل عندما هزم نابليون الجيش العثماني بالشام، وأسر 3000 جندي، وأمر بقتلهم كعادة كل الغزاة.

يتضح من هذا العرض المختصر أن عجز نابليون النفسي أمام خيانة زوجته جوزمين، شكل حالة من الحالات المرضية المزمنة، والتي يرجح أنها جعلت إحساسه بالنقص، يتجه به نحو القتل والدماء، ليثبت لنفسه قوة وهمية، كذلك جعلته يتجه نحو ممارسة الخيانة مع بولين، زوجة ضابط الحملة فوليه، ليثبت رجولته الكاذبة، ربما جاء هذا الباعث النفسي كعامل مساعد، حرك قائد الحملة الفرنسية لغزو مصر وسرقة ثرواتها. وبعد هذا العرض يمكن القول بأن بونابرته رواية تاريخية ترى الحاضر في الماضي.