'بيت السيدة' تتميز بعبقرية تصوير المكان ودقة رسم الشخصيات
صدر عن دار الكتب المصرية رواية "بيت السيدة" للكاتبة نهى الرميسي، والتي تقع في 192 صفحة من القاطع المتوسط، والرواية ذات طابع تاريخي رومانسي، وتركز على القضايا العامة والخاصة، التي تشغل بال الإنسان، وقد ناقشت الكاتبة التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بمصر خلال القرن العشرين، كما ناقشت من خلال السرد سيكولوجية الفرد، ومشاعره تجاه الأسرة، أو مشاعره الرومانسية تجاه المرأة.
وقد مثل وصف اللوحة الفنية في بداية الفصل الأول، خلاصة فكرة الغواية، عندما يستسلم الرجل لإشباع رغباته، مقابل استحواذ الأنثى اللعوب على ممتلكاته، حيث تبدو في اللوحة صورة رجل أنيق يرتدي ملابس حريرية من العصر الفيكتوري، ويمد يده لعجوز تقرأ له الكف، بينما تحيط به أربع نساء من الغجر، يسرقن أمواله وحافظة نقوده وقلادته الذهبية وهو في غفلة من أمره، ويتضح لاحقًا أن هذا المدخل الرمزي، ما هو إلا مقدمة للسرد الروائي؛ الذي يناقش التحولات القديمة الجديدة في معادلة الصراع البشري بكل جوانبه، لدرجة يمكن القول معها إن اللوحة الفنية كانت بمثابة تمهيد فني لأحداث الرواية التي تعج بالعديد من العلاقات المتشابكة، والتي تدور في محيط اجتماعي متقلب، حيث الصراع غير الأخلاقي والانتهازي بين فتحي وحسنية، مقابل تراجع فكرة الرومانسية العفيفة، وقد استدعت الكاتبة أجواء ثورة 1919 وما تلاه من أحداث، من خلال نقل مدير مدرسة الزراعة إلى السودان قبل انفصالها عن مصر، وغيرها من أحداث حتى نهاية القرن العشرين.
دلالة المكان بالرواية: يمثل المكان في رواية "بيت السيدة" أهمية كبيرة، حيث رُسمت معالم المكان بدقة؛ لتكون عامل مساعد في التعبير عن مضمون السرد، فعلى سبيل المثال نجد أن مقهى "متانيا" ذو الاسم الأجنبي، يشير إلى أن رود هذا المقهى من الطبقة الأرستقراطية الثرية، حيث الشاب الثوري "إبراهيم الشربتلي" مع صديقه "سالم"، على عكس المكان الفقير أمام نصبة الشاي الذي يمتلكه "الكومي" بالقرب من "بيت السيدة"، حيث يباع الشاي للفقراء على قارعة الطريق، فلكل شريحة من المجتمع نمط سلوك يرتبط بالمكان الذي ترتاده كل فئة.
ويمكن القول إن معالم المكان كانت جزءًا من تطوير البناء الدرامي للحبكة، ومثال ذلك "بيت السيدة" الذي يمثل مسرحًا لأهم أحداث الرواية، وسوف نستشهد بجزء من الوصف الروائي كالاتي: "يزين واجهته من الخارج عمودين من الرخام ينتهيان في أعلى البيت بقوس هلالي، بداخله نقوش وزخارف ملونة على شكل نباتات وزهور، كذلك وصف البوابة الرئيسية للبيت ذات الدرفتين الكبيرتين والتي يبلغ ارتفاعها أربعة أمتار، وتنتشر بها الزخارف، إضافة إلى وصف البيت بدقة من الداخل". لقد قدم السرد صورة سينمائية واضحة المعالم للمكان، وهذا التصوير الدقيق جعل القارئ كأنه يعيش في أجواء الماضي.
وتشير الدلالة الرمزية لهدم "بيت السيدة" العتيق في نهاية الرواية؛ من أجل بناء برج سكني كبير بدلا منه، إلى دلالات متعددة، منها تغير الذوق العام، حيث استبدال الطرز المعمارية الفاخرة، بالكتل الخرسانية التي تعج بعشرات الوحدات السكنية، إما من أجل التربح على حساب الجمال، أو لمواجهة النمو السكان الكبير، وهذا التغير في نمط العمارة، يقترن بالتحول في خصائص المجتمع.
التصوير الفني للشخصيات: ترجع أهمية رسم الشخصيات في توضيح الإطار الذي تدور حوله الرواية، من أهم أدوات البناء الفني، وقد نجحت الكاتبة في ذلك، فعلى سبيل المثال نجد أنها أجادت وصف الشخصيات بعين الكاميرا السينمائية، حيث مزجت الكاتبة بين المظهر الجسدي والسمات الشخصية والنفسية للشخصيات المحورية، ومنها شخصية عبدالحميد بيك، الذي يتمتع بصفات جسدية تتمثل في القامة السامقة، والوجه العريض، وسمات في المظهر السائد خلال بداية القرن العشرين، كالشارب الطويل المفتول، والطربوش الأحمر القاني ذا الزر الأسود، حيث كان من عادة المصريين في تلك الفترة الاهتمام بالشارب، أما الطربوش فوق الرأس، فقد كان زيًا كلاسيكيًا يرتديه كبار الموظفين والبكوات والباشوات، علاوة على سمات سلوكية تتمثل في الانضباط، وهذا المظهر يساعد المتلقي في فهم روح العصر الذي دارت فيه الأحداث.
وفي إطار وصف الشخصية من الداخل، سوف نجد أن شخصية سالم تتمتع بسمات سلوكية نبيلة جعلت سلوكه منطقيًا، فقد ترك الدراسة مرغما، بعد وفاة أبيه، وضحى بطموحه العلمي من أجل رعاية أخوته والإشراف على زراعة أرض العائلة بقرية الخطابية، كذلك برز نبله العاطفي في جانب سلوكي أخر، فعندما أحب ملك من النظرة الأولى، تقدم لخطبتها، وعندما رفض أبيها ذلك الأمر لأنه لا يريد لابنته أن تتزوج بعيدا عنه، انسحب كالفارس يخنق أنيين العشق بين جوارحه، وعندما فقد جزءا كبيرًا من أرضه؛ التي اشتراها بحر ماله، بسبب قوانين الإصلاح الزراعي على عكس الإقطاعيين في هذه الفترة، كظم ألمه بين الضلوع، وهذا جعلنا نصدق كل تصرفات وأفعال هذه الشخصية.
كذلك رسم السمات السلوكية للابن فتحي، ذلك الفتى العشوائي؛ المدلل الذي لا يمتلك هدفًا ملموسًا، أضاع حبيبته نادية، وأضاع ثروة أبيه، وارتمى في حضن المخدرات، وسلم نفسه للكومي ذلك القهوجي المتملق، الذي سلبه كل ما يملك، الذي بدأ بزج بابنته الجاهلة حسنية في طريق الفتى المستهتر، فحملت منه سفاحًا، وانتهى المخطط بالزواج، ثم استل توقيعه وهو سكران على عقد بيع بيت السيدة.
أما صورة إبراهيم الشربتلي ذلك الشاب الذي قدم حياته من أجل رفعة الوطن، فقد كانت مرسومة ببراعة، وهو على النقيض من شخصية حسن مغاوري ذلك الأزهري الذي يحاول الفرار من الفقر بأي وسيلة، وعندما أثبت مقدرته في التملق، أنعم عليه الملك بالكثير من الأراضي، فأصبح من الإقطاعيين.
وقد أسفرت الدقة في رسم كل الشخصيات عن خلق حالة من الصدق الفني في تفسير الدوافع، وتبرير التصرفات، لأن الصورة التي تكونت في الذهن أصبحت مكتملة، وبالتالي، أصبح التفاعل بين النص الأدبي، وبين عقل القارئ أمرًا حتميًا، لأن الكاتبة نجحت في أن تجعله مهيأ لاستقبال الرسالة الإبداعية، والتي تحذر من التقلبات السلبية، لأن صعود الكومي المقامر بائع المخدرات، وشوقي لص الجمعية الاستهلاكية في مقدمة الصفوف، يحذرنا من أن التحول الانتهازي الذي يضرب منظومة الاستقرار الاجتماعي، كذلك تخبرنا الرواية أن سقوط فتحي المستهتر في القاع منطقيًا لأنه مهمل، وهذه المعنى ذروة الخطاب الروائي.