بين المنفى والخيانة والانفصام: المثقف العربي في مرآة محسن الموسوي

المفكر العراقي يحلل في كتابه 'النخبة الفكرية والانشقاق' التحول الدرامي في صورة المثقف من 'قائد نهضة' إلى "منفي هامشي'.

شكّل المثقفون العرب على مدى القرنين الماضيين ظاهرةً فريدة في تاريخ المنطقة، إذ حملوا مشاريع نهضوية طموحة بينما وجدوا أنفسهم في صراع دائم مع السلطة والمجتمع. في كتابه "النخبة الفكرية والانشقاق"، يواصل الناقد والمفكر العراقي محسن الموسوي مساءلته العميقة للعلاقة المتشابكة بين الثقافة والسلطة، بين المثقف ومحيطه الاجتماعي والسياسي، في لحظة عربية مأزومة تعاني من خواء فكري وانسداد أفق التغيير. ينطلق الموسوي من مقاربة نقدية حادة، لا تهدف إلى الإدانة الأخلاقية للمثقف العربي، بقدر ما تسعى إلى تفكيك مواقع الانفصال والخيبة والانشقاق التي أصابته تاريخيًا وسوسيولوجيًا.

يبدأ الموسوي كتابه الصادر عن سلسلة كتاب الدوحة رحلة تاريخية من القرن التاسع عشر، حين وجدت النخب العربية نفسها أمام مفترق طرق: فمن ناحية، كانت الإمبراطورية العثمانية تترنح تحت وطأة التخلف والفساد، ومن ناحية أخرى، كان الغرب الاستعماري يقدم نموذجاً حداثياً مغر لكنه يحمل في طياته خطر الهيمنة. هنا، انقسم المثقفون بين تيارين: تيار الجامعة الإسلامية: الذي مثله جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ورأى في الإسلام إطاراً جامعاً يمكن تحديثه لمواجهة التحديات. وتيار التغريب: الذي مثله شبلي شميل وفرح أنطون، ودعا إلى تبني النموذج الأوروبي جملةً وتفصيلاً. لكن كلا التيارين، كما يوضح الموسوي، وقع في فخ الاستقطاب: فالأول تحول إلى خطاب دفاعي يحاول التوفيق بين المتناقضات، بينما انتهى الثاني إلى خطاب استلابي يقلد الغرب دون نقد.

يسلط الموسوي الضوء على مفارقة مثيرة: فبينما كان المثقفون هم من صاغوا الخطاب القومي والاشتراكي الذي قامت عليه هذه الدول، سرعان ما وجدوا أنفسهم خارج دائرة السلطة، بل هدفاً لقمعها. في مصر، مثلاً، تحولت ثورة 1952 من حلم التحرر إلى نظام شمولي قمع الحريات، وفي العراق، تحولت نخبة ثورة 1958 إلى ضحايا للانقلابات الدموية. يرى الموسوي أن هذا الانزياح يعود إلى تناقض جوهري في بنية النخبة ذاتها: فبينما كانت تدعو إلى الديمقراطية والعدالة، كانت تتعامل مع الجمهور بوصفه "تابعاً" يحتاج إلى التوجيه، مما مهد الطريق لاستبداد العسكر.

ويطرح فرضية محورية مفادها أن المثقف العربي لم يعد يمثل الضمير الجمعي، كما كان يتصوّر في خطاب الحداثة القومية، بل أصبح يعاني من انقسام داخلي وانفصال عن قضايا الناس. يقول "إن النخبة الثقافية لا تحيا خارج فضاء الحرية، وفعل القانون المتسع للتعدد. بل إن النخبة الطريدة منها تبقى تحمل معها ذكرى الماضى ولوم الحاضر، تستعبده لنفسها كل يوم، ساعية إلي تأسيسات للوطن الأصل ولتمثلاته. وغالباً ما تأخذ هذه التأسيسات شكلاً كتابياً له مواصفات، كآليات متشنجة حادة لا تبتغى المصالحة مع الآخرين. ما دامت معنية بذاتها أولاً، وكذلك مليئة بالحزن والكبت والألم".

وفي الجزء الأكثر إثارة من الكتاب، يحلل الموسوي التحول الدرامي في صورة المثقف من "قائد نهضة" إلى "منفي هامشي"، فبعد أن كان المثقف في الخمسينيات والستينيات صوتاً للجماهير، أصبح في السبعينيات وما بعدها غريباً في وطنه، يُتهم بالخيانة إن انتقد السلطة، أو بالانعزال إن ابتعد عنها. هنا، يقدم قراءة نقدية لأعمال مثقفين مثل نجيب محفوظ وفتحي غانم وأدونيس ومحمود درويش وعزيز السيد جاسم، الذين تحولت كتاباتهم إلى "خطاب عصيان" ضد السلطة والمجتمع معاً. ففي قصيدة "خطب الدكتاتور الموزونة" لمحمود درويش، يصبح المثقف صوتاً للضمير المكبوت، بينما يتحول النظام إلى آلة قمع تسعى إلى ترويض اللغة ذاتها.

ويؤكد أن انشقاق النخبة قد أصبح متسلسلًا، منسحبًا من الموقف النقدي إلى التورط في خطاب السلطة، ومن النزعة التحررية إلى التواطؤ، بل الخيانة. "قد يبلغ ببعض المنتمين إلى إعلان الحرج والامتناع عن التوقيع على مذكرة تطالب بإطلاق سراح مفكر، وقد يندفع آخر ـ رضوخا للكوابح أو تناغما معها ـ إلى فرض حصار مضاد على المفكرين حتى في أحلك أيامهم وأشقاها في السجون والمعتقلات. وقد يبيع آخر نفسه مرة واحدة إلى شيطان الانتماء الذي يوصيه بمعاقبة المختلفين والمنشقين؛ أحياء أو شهداء! وإن الصمت الذي تواطأ عليه مثقفونه، في صفوف اليسار وصفوف اليمين، داخل أجهزة القمع وخارجها، بين الموالين والمعارضين، ضد مفكرين، ليشكل إدانة قاطعة.

ويرى الموسوي أن الخيانة ليست مجرد خيانة وطن أو فكرة، بل هي خيانة الدور نفسه، خيانة الانتماء للمعرفة بوصفها أداة تحرر. ففي أكثر من موضع، يلمّح الموسوي إلى صورة المثقف الذي يعتلي منابر التنوير صباحًا، ويكتب خطابات الأنظمة مساءً، وذلك في إشارة إلى ظاهرة "المثقف الانتهازي" الذي يغير مواقفه حسب الظروف، وهو ما يدفع إلى طرح أسئلة أخلاقية وسياسية معقدة عن معنى الالتزام في زمن الاضطراب.

يخوض الموسوي في تحليل دقيق لعلاقة المثقف بالسلطة، معتبرًا أن التواطؤ لم يأتِ دائمًا من باب القسر، بل كثيرًا ما جاء من باب الطموح الشخصي أو التماهي مع خطابات الأبوية السياسية. يقول في أحد المواضع اللافتة "لم يكن المثقف في مأمن من غواية السلطة، فقد وجد في قربها تعويضًا عن التهميش، ومجالًا لفرض سلطته هو الآخر، وإن بثياب مختلفة".

كتاب 'النخبة الفكرية والانشقاق'
لا يقدم الموسوي حلولاً جاهزة في كتابه، بل يدعو إلى نقد ذاتي حقيقي

هكذا تتحول علاقة المثقف بالسلطة إلى علاقة مرايا متبادلة، يتبادل فيها الطرفان الأدوار: السلطة تحتاج إلى رمزية المثقف لتزخرف قمعها، والمثقف يحتاج إلى السلطة ليشعر بوجوده في الفضاء العام. هذه العلاقة الملتبسة هي إحدى تجليات "الانشقاق" الذي يحاول الموسوي رسم تضاريسه النظرية والسوسيولوجية بدقة.

ومن جانب آخر يشير الموسوي إلى أن الأحزاب والهيئات كالهياكل السلطوية الأخرى، تمارس فعلها داخل مثقفيها. كما تفرض هيمنتها عليهم. كلما بدت هذه الجهات والفئات تكوينات مغلقة وأنظمة قسرية. وعندما تمتلك هذه الأحزاب السلطة تشتد نزعتها إلى الانغلاق والهيمنة الرأية، حتى إذا وصلت إلى القمة تحولت إلى جهاز للتنفيذ وتناقل الأوامر والصمت. وعندما يكثر الصمت ينعدم الذهن وتزول قدراته. وبهذا الزوال يموت الضمير أو يكاد ويشتد الميل إلى الصمم إزاء النداءات الداعية إلى حرية الفكر والمفكرين، بينما يكثر الحماس إلى التكاتف مع دعوات عامة إلى رفع الرقابة عن كتاب في الجنس، أو إلى دفع الضرر عن داعية طليق!

ويقول "عندما تجري الخيانات المختلفة التي تندرج ـ تحديدا ـ في باب خروج المثقف على ثوابت هويته (كالحرية، وتفعيل الرأي العام) نتبين فيها مشكلة قابلة للانفجار في ما يشبه الأمراض العصابية، فالمثقف قد لا يكون قرين المخبرين والجواسيس وأصحاب مكاتب العلاقات العامة ومروجي التسويق الذاتي، بل هو صاحب انشغال ذهني وهاجس يملأ حياته، ويدفعه إلى اتخاذ موقف ما من المعترك الحياتي عامة، وقضايا الفكر والثقافة خاصة. لكنه قد ينساق، تحت وطأة حس آخر بـ"الالتزام" فيجد نفسه عرضة للرضوخ للأوامر والتعليمات والضوابط الآتية من الفئات والأحزاب التي يجد فيها تمثلات أفكاره أو طموحاته. ولربما تبدو تلك التعليمات والضوابط ـ لأول وهلة ـ متماهية مع طغيان الأفكار لديه وسيادتها في ذهنه، لكنها يمكن أن تصبح بعد حين القوة المهيمنة والضاغطة لديه، وعندها لا يتوزع ذهنه بين الرغبة المكبوتة وبين هيمنة الآخرين عليه. وحتى عندما يحقق الالتئام مع الحزب رغبة في القيادة والهيمنة، فإنه يشكو من الانفصام بين الذهنين: الذهن الحر، والآخر الملتحم بالحزب أو الفئة أو الجهاز الفاعل. وتدريجيا تبتدئ عنده رحلات التحلل أو النقد باتجاه ضفة المثقف الذي لا تستوقفه التعليمات والضوابط والقرارات، مغامرا بحريته، عارفا بالحار القادم ضده. وهكذا أمكن غارودي أن يتحرك نحو شطآن الحرية منذ أن كتب "واقعية بلا ضفاف" ليبلغ "ماركسية القرن العشرين"، وما تلا ذلك من مواجهة وتغيرات.

ويحذر الموسوي من أن النخب تنقرض وتتآكل كلما ضاقت الحياة والأجواء، والتحمت إرادة القوي المهيمنة بفاتها الطفيلية. وتنضب الخيارات في مثل هذا الواقع؛ بين اعتزال، وكفر بالماضي، وانكفاء على الذكريات، أو الهجران والخروج. عندما تتيسر الظروف، بحثا عن عالم بديل يتيح استكمال مهمة، يدرك الطريد استحالتها خارج المنشأ. أما الذين يعتزلون في الداخل فإن سلطة الهيمنة تبقيهم تحت عدسة المتابعة، لتنقض عليهم بين يوم وليلة، لا لخطأ ارتكبوه، وإنما خشية أن يكونوا شهودا على تعاسة الحاضر وخيانته للبداية. وعند المقارنة تبدو الأجواء الدتورية والفضاءات الحرة نسبيا، وكذلك الحياة التقليدية للمجتمعات، ندا يكشف للمثقفين خدعة الشعار الذي يلجأ إليه النظام المهيمن بديلا لحرية الناس وحقهم في التعددية والحياة الكريمة.

وينتقل الموسوي بعد ذلك إلى تجربة المنفى، بوصفها شرطًا معقدًا لتكوين الذات المثقفة في العالم العربي. لا يُغفل المؤلف أن المنفى أتاح لكثير من المثقفين فرصة للتأمل والتجدد، لكنه في الوقت نفسه أنتج شكلاً جديدًا من العزلة والانفصال عن الواقع المحلي. يقول "المنفى ليس فقط موقعًا جغرافيًا، بل هو حالة ذهنية وفكرية يتجاذب فيها المثقف بين الحنين والاغتراب، بين الحضور الكوني والغياب المحلي."

هذه الرؤية تتجاوز البعد الجغرافي للمنفى، لتقرأه بوصفه حالة بنيوية يعاني فيها المثقف من قطيعة مع الحاضنة الاجتماعية، حتى وهو في قلب وطنه. فالانشقاق لم يعد مجرد انقسام سياسي، بل أصبح انشقاقًا في الذات، في اللغة، في وظيفة الكتابة ذاتها.

لا يقدم الموسوي حلولاً جاهزة في كتابه، بل يدعو إلى نقد ذاتي حقيقي تعيد فيه النخبة تقييم خطابها واصطفافاتها، "لا بد من العودة إلى دور المثقف بوصفه شاهدًا على عصره، لا وصيًا عليه، شاهدًا يسائل الواقع ولا يعلو عليه، يحاور الناس ولا يعظهم". بهذه العبارة يلخّص ملامح ما يمكن تسميته بـ"المثقف الجديد" الذي لا يطلب السلطة، بل يراقبها؛ لا يحتكر الحقيقة، بل يفتش عنها؛ لا يدعي الطهارة، بل يعترف بتعقيدات موقعه وضرورات مساءلته.

يختتم الموسوي بتساؤل مركزي: هل يمكن للنخبة الفكرية أن تعيد اكتشاف دورها في زمن العولمة وانهيار المشاريع الكبرى؟ الإجابة عنده ليست بسيطة: فمن ناحية، يشير إلى أن عصر "المنقذين" قد ولى، وأن المثقف اليوم مطالب بأن يكون صوتاً نقدياً لا قديساً. ومن ناحية أخرى، يحذر من أن استمرار القمع والانقسام سيحول النخبة إلى مجرد صدى للصراعات السياسية، بدلاً من أن تكون رافعةً للتغيير. وربما تكون أهم رسالة في الكتاب هي أن النخبة لا يمكنها أن تنقذ المجتمع إلا إذا أنقذت نفسها أولاً من أمراضها: من الانتهازية إلى الدوغمائية، ومن العزلة إلى التبعية. وفي هذا التحذير، يقدم الموسوي ليس فقط تشخيصاً لأزمة المثقف العربي، بل أيضاً إضاءةً على أزمة المجتمع ككل.