تأملات في المونديال

من غير المعقول أن يكون العرب متراجعين في شتى أنواع الانجاز والعلوم ويريدون أن يكونوا متقدمين كرويا.

كنت إلى زمن ليس بالبعيد أؤمن بالثوابت التي لا تتغير مع تغير الأزمان والظروف، كبر الوالدين واحترام المعلم وطاعة ولي الأمر، حتى حصلت على وظيفة باحثة، فأجبرتني الثقافة القسرية على تغيير مواقفي، لأن كثرة القراءة توسع المدارك وتغير الرؤى وتزعزع المفاهيم، حتى لا يبقى شيء كما كان. فهؤلاء جميعا لا يستحقون مكانة خاصة ما لم يسهموا إسهاما إيجابيا في بناء الشخصية والفكر. وكنت أظن الفلسفة ترفا فكريا ولغوا لا داعي له، حتى أيقنت أنها أم العلوم. فالتركيبة الثقافية للفرد والشعوب هي التي تحدد مساره، وإذا كنت قارئا حرا، أي أنك تقرأ وتحلل وتتوصل إلى موقف، فإنك تحمي نفسك وعقلك من الجمود والسير خلف الناس مهما كانت قناعاتهم وعقائدهم فتلغي نفسك وتفهم ما يحب الآخرون أن تفهمه، لا كما يقول لك عقلك وتثبته الدلائل أمامك. وهذه هي العبودية الفكرية وهي أشد خطرا من العبودية الجسدية.

لقد أثار المونديال الكثير من الشجن، خاصة وأن احتكار حقوق البث أجبرت الناس على الذهاب إلى المقاهي لمشاهدتها، فانتشرت الحمى بين الناس، واشتد الحماس لدى الجماهير حين يحقق فريق عربي هدفا، وخيبة الأمل عقب كل خسارة. ومعروف أنه لم يسبق لفريق عربي الفوز في أي مونديال، ومع ذلك لم يفقد الناس الأمل.

على الرغم من المشاعر النبيلة، إلا أن الفكر يبقى هو العامل الحاسم في كل شيء. ولو نظرنا إلى الفرق الفائزة لغاية اليوم، نجد غالبيتها دولا أوروبية، بينها ثقافة مشتركة تؤمن بالمصلحة العامة والاتقان والقانون والأخلاق. فهي دول تفعل كل شيء في سبيل الارتقاء، ولديها إرادة قوية لرفع مستوى شعوبها ماديا ومعنويا، فهي دول ذات دخل قومي وفردي مرتفع، ومستوى علمي رفيع، وليس لديها فقر كالذي في بلادنا، ولا فساد يقعد بالهمم عن طلب المعالي. وعليه فلا يمكن تشخيص أية حالة بمعزل عن سياقها العام، فإذا كان الارتقاء شاملا لجوانب الحياة، تطورت كرة القدم والرياضة والصحة والتعليم والاقتصاد والرفاه ومستوى سعادة الإنسان.

كنت أطالع تقريرا صادرا عن الأمم المتحدة حول الإنجازات الفكرية في العالم، فوجدت أن الدول العربية هي الأقل من حيث براءات الاختراعات وإصدار الكتب العلمية والإنفاق على البحث العلمي، ولكنها تتساوى مع دول العالم في الآداب والفنون وفقا لأفضل المقاييس العالمية، كما أن إصداراتها من الكتب الدينية تفوق بقية الدول. وهذا يعني أن الكم في الإنتاج الفكري ليس مؤشرا جيدا على المستوى العلمي في المجتمع، بل أن النوعية أهم بكثير. إن لدينا من الشعراء ورجال الدين وإنتاجاتهم من مختلف المواد الإعلامية ما يتفوق على دول العالم، ومع ذلك، فنحن دون الدول المتقدمة في المقاييس الأخرى كالدخل القومي والفردي والمستوى العلمي والأمن وتقارب الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. وهذا أيضا لا يمكن النظر إليه في معزل عن التركيبة الفكرية والثقافية العامة للمجتمع.

إن التقدم والارتقاء عملية تراكمية، فعندما يتم تصحيح كل خلل، تكون النتيجة أقرب إلى التمام والاكتمال، وإذا ترك الخلل ينتشر في أنحاء البنيان المجتمعي، يتهتك النسيج كله وربما يتلف تلفا غير قابل للإصلاح. فالمشكلة ليست مرئية، بل لا بد من الغوص في أعماقها وفهم الطريقة التي يفكر بها الناس، وهل هم إيجابيون أم سلبيون، وهل يقومون بالمبادرات أم ينظرون إلى الخلل ويشعرون أنهم ليسوا معنيين بإصلاحه، بكلمات أخرى، هل الفرد إيجابي أم سلبي؟

مرة أخرى، لا يمكن البحث في إيجابية الفرد أو سلبيته بمعزل عن السياق العام في المجتمع، إذ يحتاج الإنسان إلى مقومات للإيجابية لكي يكون إيجابيا، أي أنه يحتاج إلى ثقافة عامة تشجع على الإيجابية، كالمساواة بين الناس وحكم القانون والحريات الفردية وتقدير للشخص الإيجابي والمبادر، وعدم معاقبة الفرد بشكل اعتباطي، أي قوانين عادلة ومفعلة تماما على الجميع ونزاهة في القضاء، وهذه مقومات غير متوفرة تماما في المجتمعات العربية، وغالبا ما يتقاعس الإنسان لخوفه من النتائج والتداعيات العكسية، وهذا الجو الثقافي العام هو الذي أفرز الكثير من الأمثال الشعبية التي تكرس ثقافة التقاعس والنكوص وتحد من الطموح.

ليس المونديال هو الفشل الوحيد لدينا وربما يكون ترفا لا داعي له، ويكفينا شرف المشاركة والمحاولة. وليس المونديال هو النجاح الوحيد للدول الفائزة، فهي متفوقة في سائر الأمور، لذا فإن النظرة الشمولية هامة جدا في جميع الأشياء. فلا يمكن محاربة الفقر بالمشاريع الإنتاجية دون محاربة الفساد. ولا يمكن إنتاج علماء طالما أن الطلاب يحفظون ولا يجربون بأنفسهم ولا يستنتجون القاعدة بأنفسهم. ولا يمكن رفع مستوى الصحة العامة طالما أن العلاج باهظ الثمن والوعي الصحي منخفض. ولا يمكن بناء مجتمعات قوية طالما أن القوانين يصدرها ويلغيها فرد وليس مؤسسة، ولا يمكن خلق شعور بالولاء والانتماء للوطن طالما أن الفرد لا يجد عملا بعد تخرجه، وإذا وجد، فالدخل لا يكفي. وهذا الواقع لا تعاني منه الدول التي فازت في المباريات وانتقلت إلى المستوى الأعلى.

هل يعقل أن يكون إنتاج العرب الفكري مكافئا للدول المتقدمة في الآداب والفنون والدين فقط؟ هذا يعني أن الثقافة زائفة ولا تعود بالتنمية على المجتمع، ولو كانت كذلك، لرفعت من مستوى الدخل القومي والفردي. بل يمكن القول أن بعض هذه الكتب يحمل ثقافة هدامة وخطيرة على المجتمع، خاصة إذا اصطبغت بصبغة دينية، وتناول فيها الكاتب موضوعات تجنح بالقارئ اليافع إلى الانحراف لدرجة لا يتصورها العقل وهي كثيرة ومنها كتب رائجة.

خلاصة القول، يقول المثل الانجليزي "إذا توفرت الإرادة، وجد السبيل"، وإذا توفرت إرادة الارتقاء لدى صناع القرار، يمكنهم فعل الشيء الكثير. فهناك فرق بين من يقوم بواجبه بشكل آلي، وبين من يقوم به بصدق وحماس، فيتابعه ويقوم بتقييمه وتصحيحه فيما بعد، وهذا الحماس لا يأتي من فراغ، بل من مناخ ثقافي عام يشجع على الإنجاز ويجزي عليه.