تحديات الانسحاب الأميركي من العراق

تجاوز الإيرانيون الترتيبات التي سمح لهم بها الأميركيون عند احتلالهم للعراق. ثمة خط أحمر تم رسمه في صحراء الأنبار.

هناك جملة من التحديات والمخاطر سيواجهها المستقبل السياسي للعراق في حال إنسحب الأميركان منه. وفيما يختلط السياسي بالعسكري بالأمني بالاستراتيجي والإقليمي، إلا أنه بالإمكان وضع تلك التحديات والمخاطر ضمن أوجه أساسية.

فمنذ أن احتل الأميركان العراق عام 2003 وأسقطوا نظامه السياسي، كان التعهد الأميركي أن الولايات المتحدة هي من ترعى مصالح هذا البلد الذي وقع تحت الوصاية الدولية ومن ثم فإن اية مخاطر أو تحديات تواجهها العملية السياسية سيكون الأميركان هم من يضعون لها الحلول لتفادي تأثيراتها على مجرى العملية السياسية والمحافظة عليها وليس من السهولة أن يكون هناك إنسحاب أميركي والتهديدات للعراق والصراعات بين أجنحته الحاكمة تتعدد أشالها كل يوم.

كان هناك توافق أميركي إيراني منذ البداية على أن يكون لإيران دور كبير في تقرير مستقبل الحكم في العراق وهم وأتباعهم وكذلك الكرد من لهم اليد الطولى في رسم معالم مستقبل العراق بدعم أميركي وأيقنوا ان المكون الآخر (السني) لن يكون معهم في رسم معادلة العراق وبقى هؤلاء خارج تلك المعادلة وما يزالون يئنون من آثارها الكارثية على مستقبل بلدهم ومحافظاتهم وهم الآن يعانون التهميش والإبعاد عن سلطة القرار وعدم إعطائهم سوى فتات من المناصب التي لا تقدم ولا تؤخر وليس لهم دور في صنع القرار السياسي أو الأمني أو حتى الإقتصادي ولو في أبسط أشكاله ولديهم مخاوف كبيرة بأن وجودهم نفسه يتعرض لتهديد خطير.

سمحت الولايات المتحدة طوال السنوات الماضية ومنذ بدء إحتلالها للعراق، سمحت لإيران في تقاسم النفوذ معها على الساحة العراقية ووجدت إيران فيها فرصتها الذهبية لأن تبسط هيمنتها على كل المحافظات العراقية دون إستثناء. وراح الأميركان يراقبون مشهد التدخل الإيراني عن بعد وفي بعض الأحيان يرسلون رسائل تحذير لطهران من أنها إمتدت وتوغلت كثيرا خارج الحدود المسموح بها أميركيا. لكن إيران أعطت الأميركان الإذن الطرشة كما يقال ولم تستجب لتحذيراتهم وراوغت كثيرا في مبرراتها لمد تلك الهيمنة على أوسع نطاق وبخاصة في جانبيها الإقتصادي والتجاري والسياسي والطائفي ومن ثم التغيير الديموغرافي في المحافظات التي يطلق عليها محافظات المكون العربي وإستباحت مدنها عن طريق الموالين لها داخل العراق ومن يشكلون منظومتها السياسية الحاكمة.

وفي المقابل بالرغم من أن محافظات المكون العربي هي من أشد المعادين للإحتلال الأميركي منذ عام 2003 وشنوا ضد القوات الأميركية معارك ضارية كبدتهم فيها خسائر فادحة وبخاصة في الأنبار ومدينة الفلوجة على وجه التحديد إلا ان ما واجهه سياسيو المكون العربي من إهمال لدورهم وتهميشهم وعدم وجود دور لهم في سلطة القرار ومحاولات إيران للهيمنة على مقدرات محافظاتهم أيقنوا أخيرا أن وجود الأميركان في العراق ضرورة لحفظ "بقايا" وجودهم وهيبتهم التي تعرضت لمخاطر كبيرة حتى أن الأمر وصل الى حد هيمنة قيادات المكون الآخر عليهم بصورة كاملة ومنها المنصب السيادي الذي منح لهم وهو رئاسة مجلس النواب. وحتى هذا المنصب سرقوه منهم بعد أن تم تدبير وحياكة طرق وحيل مراغة مختلفة لسلبهم آخر حق تمتعوا به. ولهذا فإن أهل الأنبار وبقية المحافظات المحررة من داعش توصلوا الى قناعة بأنه إذا إنسحب الأميركان كليا فسيتحول العراق الى أحد قلاع الإمبراطورية الإيرانية الممتدة الى سوريا ولبنان ويتم إبتلاع محافظاتهم الواحدة بعد الأخرى. ولكل تلك المخاوف فإن ساسة تلك المحافظات هم أكثر ميلا لبقاء وتواجد القوات الأميركية في العراق ليس حبا بهم، ولكن لحمايتهم مما يتم حياكته من مؤامرات وفتن لسحق وجودهم والغاء هويتهم وتحويلها وفق توجهات العقيدة الإيرانية في فرض ولاية الفقيه على العراق ودول المنطقة المجاورة.

وما يزال تهديد داعش للمناطق الغربية وعلى الحدود مع سوريا وحتى تركيا يشكل تحديا خطيرا للتوغل في محافظاتهم مرة أخرى وهم على قناعة بان كل من الأميركان وإيران يدعمون جهات منهم ولهذا فإن شعبي الانبار ونينوى وحتى بقية المحافظات الأخرى سيجدون أرضهم وقد إستباحتها تلك العصابات وحولتها مرة أخرى إلى ساحة لحرب وصراع مرير يعود على محافظاتهم بالويل والثبور. بل أن الجناح الشيعي الحاكم يدرك هو الآخر أن إنسحاب الأميركان سينجم عنه تحريك الجماعات المسلحة شرقي وشمالي سوريا للتوغل مجددا في العراق وسيكون من المتعذر مواجهة هذا التوغل بأي حال من الأحوال.

ينطلق الأميركان في الرغبة في الإنسحاب من العراق بعد فترة مد وجزر وتصريحات مختلفة على أنهم باقون ولن ينسحبوا من هذا البلد الى أن وصلوا الى قناعة بإن إنسحابهم أفضل من بقائهم وبخاصة أن الأميركيين عموما سئموا تواجد قواتهم في العراق إضافة الى التكاليف الباهظة على هذا الوجود لتقرير تقريب إنسحابهم منه نهاية العام القادم 2025 كما أشير مؤخرا وهو مؤشر يقلق ليس فقط سنة العراق الآن بل حتى كثير من الحاكمين فيه الذين يرون أن الإنسحاب الأميركي سيرفع الحماية السياسية والإقتصادية عنهم وقد يتعرض النظام السياسي بأكمله الى السقوط تحت وطأة الضغط الجماهيري الذي لابد وإن يكون للأميركيين دور في تهييج الشارع العراقي ضد رموز السلطة وتخليصهم من الفساد الكبير وفضائحه التي أزكمت الأنوف يضاف الى هذا صراعاتهم وحروبهم فيما بينهم والتي تصل بين الحين والآخر الى حد كسر العظم بين تلك الأطراف الحاكمة.

ويخشى الحاكمون في بغداد من جماعة الإطار أن تولي دونالد ترامب السلطة مرة أخرى في الولايات المتحدة هو من يسهل مهمة إنسحاب القوات الأميركية كونه يعارض تواجدها الذي يكبد الأميركان خسائر باهظة ولهذا فهم يأملون بفوز مرشحة الرئاسة الأميركية كامالا هاريس ويعدونها فرصة لتخليصهم من تلك المخاوف كونهم لا يطمئنون لترامب ولن ينسوا مواقفه بإستهدف كبار الشخصيات الحاكمة وكذلك إستهدافه لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس الذي يعد من وجهة نظر الأميركان اكبر إنجاز حققه ترامب بتخفيف حدة الإرهاب الذي يواجهونه خلال وجودهما وهما من كانت لهم اليد الطولى في إستهداف الأميركان.

يرى الحاكمون في بغداد أن رفع الحماية الاقتصادية الأميركية ومن البنك الفدرالي الأميركي عن أموال العراق وهي بعشرات المليارات هو خطر يهدد مستقبلهم وليس لديهم قناعة بأن سيطرة إيران على مقدراتهم ستوفر لهم وسيلة ضغط لمواجهة مخاطر تعرض بلادهم للإفلاس وبالتالي عدم قدرتهم على دفع مرتبات حتى رئاسات الثلاث وهيئاتهم المستقلة. أما الموظفون والمتقاعدون فسيكون عليهم من الصعب الحصول على مرتباتهم بعد أن فتح الأميركان نار جهنم مجددا على بلدهم وجردوهم من القدرة على مواجهة غول الدول والشركات الدائنة للعراق لكي يدفع لها مليارات الدولارات وقد تحرض واشنطن شركات عالمية لعدم شراء النفط العراق وفرض عقوبات إقتصادية مجددا على العراق. أما العراقيون كشعب فسيكون في أشد حالات الضيق والمحنة وستتردى أحوالهم وربما تندلع حربا أهلية لا تبقي ولا تذر.

بل أن الجماعات المسلحة في العراق والتي تدعمها إيران ربما هي الآن اصبحت أكثر تمسكا بوجود الأميركان لأنه إنسحابهم من العراق لن يبقي لهم مبررا للهيمنة على مقدرات البلد وإن كان البعض الآخر يرى فيه أنه يمكن لإيران التي يدينون لها بالولاء التام أنها هي من تعوضهم في محاولات فرض النظام على العراقيين بأية طريقة حتى لو تطلب الأمر إدخال قوات الحرس الثوري الى بغداد وبقية المحافظات العراقية لأن إيران نفسها لن تسمح بخسارة وجودها بأي حال من الأحوال ولن تسنح لها اية فرصة في المستقبل لتحقيق هذه الهيمنة مثلما هي عليها الآن وبخاصة أنها تدرك أن الإنسحاب الأميركي لن يترك الإدارة الاميركية العراق لقمة سائغة لإيران تتحكم فيه على هواها بل قد تتعرض إيران لعقوبات إقتصادية قاسية وتحريض إسرائيل على ضربها وإستهداف منشآتها الحيوية إن وجد الاميركان أن العراق ترك حرا لإيران تعبث فيه على هواها.

وفي كل الأحوال فإن قادة العملية السياسية المتمثلون بالإطار حاليا على الأقل قد توصلوا الى قناعة بأن الأميركان سيدعمون اية واجهات ذات طبيعة شبابية من بين الوجوه البارزة في محافظاتهم ولهذا راح البعض يهيئ مستلزمات تجديد صورته أمام الرأي العام بدعم قوى ناشئة لتكون هي في الواجهة تحت مسميات رنانة لكي لا تخسر تلك الرموز وجودها كليا وهي تأمل أن تبقى تتحكم من وراء الستار وهي محاولة يجد فيها الأميركان أنها الوسيلة الأمثل لتغيير صورة الواقع العراقي من داخله ومن التابعين لرموزه وترك دعم ديناصورات الإطار الذين أغرقوا أنفسهم في ملفات فساد كبرى لم تبق للعراقيين ما يطمئنهم على المستقبل إضافة الى حالة الإحتراب التي يعيشون فصولها هذه الأيام وهي أيام مرعبة بالنسبة إليهم بالإضافة الى أن الأميركان عدوا محاولات قادة السلطة بأنها نكران للجميل لأنهم من اجلسوهم على تلك الكراسي وسهلوا لهم مهمة الهيمنة على مقدرات البلد ولهذا سيقدم ساسة الإطار وزعاماته "تنازلات" رغما عنهم بأن تكون للقوى الناشئة الدور الكبير في إدارة الدولة المستقبلية في العراق حتى أن السيد السوداني نفسه أعد تحالفات كثيرة مع تلك القوى ليكون له السند والدعم الذي يمكنه من الحصول على الولاية الثانية بالرغم من أن مستقبل ولايته مهدد بالإنهيار في أية لحطة لكن ساسة آخرين مثل السيد عمار الحكيم والجماعات المحسوبة على تشرين وقوى معارضة أخرى قد سبقتهم بكثير في هذه الخطوة.

ويبقى أمل محافظات المكون العربي أن يجدوا لهم مكانا بين تلك الصراعات ومحاولات محو الوجود من خلال إظهار مساندتهم لبقاء القوات الأميركية مبررين ذلك بأن إنسحاب الأميركان سيحول محافظاتهم الى جيوش إحتلال من دول إقليمية أخرى وليس فقط من إيران عندها سيتحول العراق الى مقاطعات صغيرة لهذه الدولة المجاورة أو تلك التي ترى في الوضع العراقي فرصة لها للهيمنة وللدفاع عن مصالحها التي تخشى من إمتداد تأثيراتها الى داخل بلدانهم ويسعى بعض ساسة هذا المكون الى ترتيب أوراقهم من جديد لإعادة دورهم في قيادة البلد وعدم إبقاء دورهم هامشيا يمتد لسنوات أطول وربما أصبح لبعض تلك الرموز تجارب في كيفية لعب الأدوار بما يليق بمحافظاتهم في المستقبل القريب وهم أنفسهم من أعدوا ودعموا جماعات شبابية وقوى ناشئة لإدارة شؤون بلدهم ومحافظاتهم في المستقبل وكل منهم يبحث عن الكسب الجماهيري لتكون له قاعدة تسنده في الإنتخابات المقبلة.

يدرك الأميركان بالمقابل أن قبولهم الشكلي بالإنسحاب من العراق هو لسحب البساط من ضغوط بعض الساسة العراقيين وجماعاتهم المسلحة التي وجهت في الأشهر الأخيرة ضربات لبعض القواعد الأميركية في العراق وسوريا وما يقوم به الأميركان ويطلقونه من تصريحات عن الإنسحاب المرتقب ما هو إلا مناورة وليس إنسحابا لأن الأميركان لن يتركوا العراق وإسرائيل ربيبتهم تتعرض لمخاطر أن يتم إستهدافها من إيران بعد أن تكون إيران الجارة المستقبلية لإسرائيل وبخاصة بعد فرض هيمنتها على العراق وسوريا ولبنان. ولهذا فلن يتبقى أمامها من جار سوى إسرائيل والأخيرة في المقابل يمكن أن ترضى بجار إيراني أفضل لديها من جار عربي يهدد وجودها مثل العراق ومصر وربما السعودية ودول الخليج وإن كانت الأخيرة محسوبة على الأميركان. لكن ساسة البيت الأبيض وإسرائيل ليس لديهم "لحية مسرحة" كما يقال حتى أنهم راحوا يحرضون سكان المملكة وبقية دول الخليج للثورة ضد حكامهم. لكن الأميركان وإسرائيل والغرب عموما لن يتركوا لإيران أن تتحكم بمقدرات المنطقة على هواها.

خلاصة القول أن الإنسحاب الأميركي إن حدث فسوف لن يكون إلا شكلا من أشكال تبادل الأدوار بين القوات بعضها يخرج وتدخل قوات أخرى بديلة ومن خلال مناورات معينة يبقى الأميركان ممسكين بزمام الأمور في هذا البلد لكنهم إن شعروا أن التهديد الموجه لهم من إيران يعرضهم لخسائر كبيرة فهم ينسحبون شكليا كما ذكرت لكنهم لن يتركوا العراق البلد النفطي وصاحب الثروات الاخرى الكبرى وبخاصة غاز الأنبار وإحتمالات وجود آبار نفط في غربيه إضافة الى قرب الأنبار الجغرافي من المجال الإسرائيلي لتترك الولايات المتحدة وإسرائيل إيران وهي تتمدد على هواها وربما تعد الانبار الخط الاحمر الذي لن يسمح الأميركان بتجاوزه مهما كلفهم من ثمن وهم من لهم القدح المعلى في إدارة الدولة منذ عشرات السنين وكانت أغلب قيادات السلطة المدنية والعسكرية والأمنية وحتى الإقتصادية هي من الانبار ومحافظات سنية أخرى.