ترامب لا يريد انسحاب الأوروبيين من الاتفاق النووي

فلسفة ترامب تجمع الآليتين اللتين لم تستطع إدارة أوباما أن تعمل بهما معا في وقت واحد: العقوبات والدبلوماسية.

على الورق، خيارات الأوروبيين مازالت متعددة لحماية مصالح شركاتهم من العقوبات الأميركية. إذا أرادت القوى الأوروبية عقاب الولايات المتحدة فستفعل.

يستطيع الأوروبيون اللجوء إلى الاستمرار في التعاملات التجارية مع الشركات الإيرانية بعملة أخرى غير الدولار الأميركي. هذا الحل سيضمن استمرار الصفقات الاقتصادية بعيدا عن المقصلة الأميركية، ويسحب حق الفيتو التجاري الذي تتفوق به واشنطن على بقية القوى الاقتصادية الأخرى.

ثمة آلية حامية قادرة على حماية الشركات الأميركية تسمى "الإجراءات المعطلة". هذه الإجراء مستمد من قانون اعتمدته دول الاتحاد الأوروبي عام 1996 لحماية الشركات الأوروبية من قانون العقوبات الأميركية على إيران وليبيا وكوبا، الذي أقره الكونغرس قبل ذلك بعام. إذا اعتمدت هذه الإجراءات ستشكل مظلة حماية للشركات الأوروبية تمنحها مناعة ضد العقوبات الأميركية.

السوق الأوروبية مجتمعة هي أكبر سوق في العالم. هذا يؤهل الأوروبيين إلى تهديد الولايات المتحدة بإمكانية فرض عقوبات مماثلة على الشركات الأميركية، ردا على عقوبات واشنطن. يمكن أيضا أن يطالب الأوروبيون باستثناء لشركاتهم التي تقيم علاقات مع إيران من العقوبات "الثانوية"، مثل تلك الاستثناءات التي منحتها إدارة الرئيس دونالد ترامب للأوروبيين من التعريفات الجمركية الإضافية على تجارة الصلب والألمنيوم.

لكن ما هي مصلحة الأوروبيين من الذهاب بعيدا في مواجهة الولايات المتحدة؟ هل تفعل كل ذلك من أجل إيران؟ أو هل المصالح الاقتصادية الأوروبية في إيران بهذا الحجم الذي يستحق زعزعة العلاقات التاريخية على ضفتي المحيط الأطلسي؟ هل تخاطر أوروبا بتهديد استقرار مظلة الحماية العسكرية الأميركية، وهل تضع سوق إيران المهترئة في موضع مقارنة مع السوق الأميركية العملاقة، عند الحديث عن ميزان الأرباح والخسائر؟

الإجابة: بالطبع لا! أوروبا لا تزال في مرحلة "الطفولة" فيما يتعلق ببناء سياسة خارجية مستقلة، كما قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. على مدار أكثر من 70 عاما، عودت الولايات المتحدة الأوروبيين على عدم بناء أجندة جيوسياسية من دون أن تكون هي في القلب منها. لم يعد الأوروبيون، وهم يحكمون اليوم من قبل سياسيين صغار لا يشبهون ونستون تشرشل أو شارل ديغول في شيء، قادرين فجأة على تولي عجلة القيادة من الأميركيين. على الأقل ليس في مسألة تتعلق بدولة كإيران.

لكن الدافع الأهم الذي سيجعل الأوروبيين لا يفكرون في تحدي الولايات المتحدة هو غياب أي تضارب فعلي في المصالح. كان هذا ممكنا لو أراد الأوروبيون انتهاج نفس سياسة الولايات المتحدة التي قادها الرئيس دوايت أيزنهاور في مجلس الأمس ضد بريطانيا وفرنسا أيام حرب السويس عام 1956، عندما تبنى موقف الروس على حساب الأوروبيين. فرنسا وبريطانيا وألمانيا من الممكن أن يختاروا جانب روسيا بالبقاء في الاتفاق النووي الإيراني، على حساب موقف ترامب.

لكن هل يريد ترامب فعلا أن ينسحب الأوروبيون من الاتفاق؟ بمعنى آخر، هل الإدارة الأميركية تريد حقا لهذا الاتفاق أن يموت؟

كل المعطيات التي بدأت تتضح بعد هدوء الغبار توحي بأن من مصلحة الأميركيين أن يبقى الاتفاق النووي قادرا على التنفس والبقاء، لأنه يضمن للغرب عامل الوقت.

إدارة الرئيس السابق باراك أوباما والأوروبيون كانوا يبررون اقتصار الحديث مع الإيرانيين حول البرنامج النووي فقط من الناحية التقنية، بأن فتح ملفي الصواريخ الباليستية ونفوذ إيران في المنطقة سيمنح الإيرانيين القدرة على المماطلة وكسب الوقت، وإمكانية التحول قبل نهاية عملية التفاوض إلى قوة نووية. لذلك أراد أوباما تحييد البرنامج النووي أولا، ثم الانتقال، خلال رئاسة الإدارة اللاحقة، إلى تعديل الاتفاق بحيث يشمل الملفات الأخرى.

هذا يفسر الإبقاء على العقوبات الأميركية وعدم رفعها بشكل مباشر بعد الاتفاق مباشرة. أوباما كان يتوقع أن تفوز هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية وأن تنهي المهمة.

على العكس، فلسفة ترامب تجمع الآليتين، اللتين لم تستطع إدارة أوباما أن تعمل بهما معا في وقت واحد، وهما العقوبات والدبلوماسية. رؤية أوباما كانت تتمحور حول سلوك طريق العقوبات من أجل الوصول في نهايته إلى مقصد الدبلوماسية. ترامب يفكر بطريقة مختلفة عن السياسيين، ويريد أن يجمع المسارين معا في وقت واحد.

بقاء الأوروبيين في الاتفاق يوفر له ما يبحث عنه. من جهة، سيبقي الأوروبيين البرنامج النووي الإيراني تحت ملاحظة غربية ورقابة منظمة الأسلحة النووية، ومن جهة أخرى تفرض الولايات المتحدة عقوبات غير مسبوقة على النظام الإيراني.

المعادلة السابقة تجعل الخلاف بين الأوروبيين والأميركيين اختلافا في وجهات النظر فقط، وليس صراعا جيوسياسيا حاسما. هذا كان ممكنا لو لم يكن الهدف النهائي للجانبين واحد، وهو إجبار إيران على العودة إلى الطاولة للتفاوض على برنامج الصواريخ الباليستية، ونفوذ إيران.

لذلك، ليس منطقيا أن يكرر الأوروبيون ما فعله الأميركيون خلال حرب السويس، لكن من المرجح أن يصمتوا تماما ويتبنوا نهج الولايات المتحدة، كما حدث من قبل خلال غزو العراق عام 2003.

النهج، الذي سيتبناه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خلال محادثات مرتقبة مع الأوروبيين، مبني على لعبة تبادل أدوار، كافية لخلق معسكر صقور وحمائم.

لكن المشكلة أن التقسيم لمعسكرين لن ينتهي إلى حمائم أوروبيين وصقور أميركيين، بل سيخلق معادلة هجينة بين الرافضين لانفتاح إيران على الغرب، والداعمين له. هذا يعيد تفكيك المعادلة وتركيبها بحيث تضم إدارة ترامب والمتشددين في إيران في معسكر، والأوروبيين والإصلاحيين في إيران في المعسكر المقابل.

هذا بالضبط ما يريده ترامب، خلق انقسام داخلي يسمح بعودة المتشددين مرة أخرى إلى الحكم، انطلاقا من فقدان ثقة المواطنين الإيرانيين في الاتفاق النووي، الذي مثل ارث الإصلاحيين في السياسة الخارجية، وفي عدم قدرتهم على ترجمته إلى إنجازات اقتصادية ملموسة.

لكن لماذا يريد ترامب عودة المتشددين إلى الحكم؟ ببساطة هذه هي الخطوة الأولى نحو تغيير النظام في إيران.

ترامب يؤمن أن السلاح النووي الحقيقي للنظام الإيراني هو نفوذه الذي دمر اليمن والعراق وسوريا ولبنان، ويحاول زعزعة استقرار الخليج. ذلك، الذي يطلق عليه في الدستور الإيراني "تصدير الثورة"، هو الملف الأساسي استراتيجيا في إيران. البرنامج النووي كان الحاجز الذي أراد الإيرانيون إشغال الغرب به حتى لا يصلون إلى مرحلة الضغط السياسي التي قد تسقط النظام. هذا يعني أن القوات والميليشيات الإيرانية موجودة في القنيطرة السورية على حدود إسرائيل لحماية النظام في طهران.

ترامب قرر الانسحاب من الاتفاق النووي في اللحظة التي رأى فيها الإيرانيين، في ديسمبر ويناير الماضيين، يهتفون في الشوارع ضد سياسات النظام وفشله في معالجة مشاكلهم. صعود بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون أعاد مسألة تغيير النظام إلى قمة أولوية الإدارة في تعاملها مع إيران.

بقاء الأوروبيين في الاتفاق النووي يمنح ترامب الوقت لبلورة خطط متشعبة إزاء إيران يتصور أنه قادر على أن يحصل من خلالها على كل ما يريد. وقف البرنامج النووي، وإنهاء برنامج الصواريخ الباليستية، ووضع حد للنفوذ الإقليمي، كمقدمة لإسقاط النظام. هذا منطق رجال الأعمال في التعامل مع السياسة، لكن ترامب ينسى أحيانا أن جوهر التجارة هو الربح.. وأحيانا الخسارة.