تصاعد الجدل حول اعتبار القضاء التونسي وظيفة وليس سلطة

فضلا عن محاولات السلطة التنفيذية تسييس القضاء في حقبتيْ بورقيبة وبن علي، تعكرت الوضعية منذ 2011 بتدخل فاعلين جدد في سير القضاء على غرار الأحزاب السياسية ورجال الأعمال.
انحرافات الماضي أفقدت التونسيين الثقة في القضاء
تونس

تحتدم موجة الجدل في تونس بخصوص تنصيص مسودة دستور الجمهورية الجديدة على أن القضاء وظيفة وليس سلطة، بين مساند لهذا التمشي باعتباره خطوة في اتجاه إصلاح منظومة القضاء التي قيل في شأنها الكثير، وبين مناوئ له باعتباره نسفا لأحد أسس الديمقراطية المتمثل في مبدأ الفصل بين السلطات.
واعتبر رئيس الهيئة المكلفة بإعداد الدستور الجديد الصادق بلعيد الإثنين الماضي، في تصريح للتلفزيون الرسمي التونسي أن المبدأ في مشروع الدستور الجديد هو البحث عن توازن بين "الوظائف".
وقال إن "القضاء هو عبارة عن وظيفة في الدستور الجديد ولن يكون سلطة"، مؤكدا أن "السلطة الوحيدة هي سلطة الشعب.
ونفذ القضاة الخميس، "يوم غضب" أمام المحكمة الابتدائية بتونس دعت له تنسيقية الهياكل القضائية في إطار التحركات الاحتجاجية على  بسبب إعفاء رئيس الجمهورية قيس سعيد لـ 57 قاضيا. 
وعبرت نائبة رئيس جمعية القضاة التونسيين عائشة بن بلحسن التي كانت حاضرة وسط المحتجين عن "رفض القضاة التونسيين تحويل السلطة القضائية إلى وظيفة"، متعهدة بمواصلة التحركات الاحتجاجية إلى حين استجابة الرئيس لمطالبهم.
 

القضاء في خدمة الشعب والدولة وليس سلطة لا على الشعب ولا على الدولة

واعتبرت بن بلحسن التوجه في اعتبار "القضاء سيكون وظيفة وليس سلطة مستقلة عن بقية السلطات التنفيذية والتشريعية لم يقع في أي دولة ديمقراطية"، معتبرة أن "هذا القرار يهدد استقلالية القضاء".
وقال الباحث في العلاقات الدولية فتحي الغنودي في تصريح لوسائل الإعلام المحلية الأسبوع الماضي، إن "القضاء في خدمة الشعب والدولة، وهو وظيفة لفض النزاعات وليس سلطة لا على الشعب ولا على الدولة"، مستنكرا ما اعتبره تمرد القضاة على القوانين والحال أنهم "مدعوون أكثر من غيرهم لاحترامها وتطبيقها".
وأشار إلى أن "القضاء في تونس بعد الثورة لم ينتصر لا للدولة ولا للشعب التونسي"، واصفا إياه بـ"القضاء غير السيادي وقضاء المافيات".
وفي الحقيقة، تعود مسألة تجريد المرفق القضائي من مصطلح السلطة ليمارس صلاحياته كوظيفة إلى أواخر العام الماضي عندما قال سعيّد  لدى استقباله رئيس المجلس الأعلى للقضاء السابق يوسف بوزاخر بنبرة غاضبة ومتشنجة، "تعلمون ذلك أكثر مما يعلمه الكثيرون، القضاء أولا وظيفة، والسلطة والسيادة للشعب وكل البقية وظائف، القرارات تصدر باسم الشعب التونسي والقضاء وظيفة وليس سلطة مستقلة، ليست سلطة قائمة الذات مستقلة عن الدولة".
ومر القضاء التونسي بمراحل عصيبة حيث عملت السلطة التنفيذية منذ زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على تسييسه. ومازال الاتحاد العام التونسي للشغل يتهم بورقيبة بتنصيب محاكمات "غير عادلة" عند الحكم على منظوريه عقب أحداث 26 يناير 1978.
وعمل الرئيس الأسبق زين العابدبن علي إصلاح منظومة القضاء بإلغاء محكمة أمن الدولة ومنح صلاحيات أوسع للقضاة في إطار الإصلاحات السياسية والدستورية التي قام بها عقب وصوله للسلطة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987.
غير أن تلك الإصلاحات سرعان ما انتكست بحكم جنوح السلطة التنفيذية إلى التفرد بالحكم.
 

كل الأطياف السياسية في تونس كانت تدعو إلى إصلاح المنظومة القضائية التي تسببت في أزمة حكم منذ 2011

وزاد الطين بلة عقب الثورة التونسية خاصة في فترة تولي القيادي النهضوي نور الدين البحيري وزارة العدل حيث شهد القضاء انحرافات خطيرة حسب متابعين للشأن الداخلي التونسي. ولم يعد القضاء واقعا تحت سلطة الأحزاب الحاكمة فحسب بل تسللت إليه مجموعات الضغط والنفوذ من رجال الأعمال والأحزاب المقربة من حركة النهضة، بحسب ما يقول هؤلاء.
وفي الـ10 من شباط/ فبراير أعلن الرئيس التونسي حل مجلس القضاء الأعلى على أن يحل محله مجلس آخر، مشددا على أنه "لن يقبل أن يكون القضاء دولة داخل دولة".
وأضاف سعيّد أنه "لا يمكن تطهير البلاد إلا بتطهير القضاء"، مؤكدا أنه "على القضاة تطبيق القانون بحيادية كاملة".
وتابع "لا بد من وضع حد لممارسات بعض القضاة. القضاء وظيفة وليس سلطة فوق سلطة الدولة".
واعتبر الناشط السياسي محمود البارودي في تصريح خاص لـ"ميدل إيست أونلاين أنه "ليست هناك نية للمساس بالقضاة ولا سيما الشرفاء منهم"، مشددا على أن المسألة تتعلق بالأساس بإرادة حقيقية لإصلاح القضاء".
وأضاف البارودي أن "كل الأطياف السياسية في تونس كانت تدعو إلى إصلاح المنظومة القضائية التي تسببت في أزمة حكم منذ 2011".
وأوضح الكاتب السياسي القريب من حركة النهضة الإسلامية صلاح الدين الجورشي في تصريح خاص أن "طرح رئيس الجمهورية في ما يتعلق بالقضاء هو طرح صائب ويوافقه على ذلك غالبية التونسيين المطالبين بإصلاح القضاء". 
واستدرك الجورشي بالقول "غير أن الشكل الأحادي الذي ميز أداء سعيّد هو الذي أدى إلى التصادم الحاصل اليوم بين رئيس الجمهورية والقضاء". 
وأوشك القضاة على إتمام أسبوعهم الثالث وهم في إضراب مفتوح احتجاجا على إقالة الـ57 قاضيا الذين تقول رئاسة الجمهورية إنهم مشبوهون بالفساد والتستر على إرهابيين ونسج علاقات مشبوهة بأحزاب سياسية.
وفي الـ20 من حزيران/ يونيو الجاري تسلم سعيّد مشروع الدستور الجديد الذي سيعرضه على التونسيين في الـ30 من الشهر الجاري ليُبدوا رأيهم فيه في استفتاء عام في الـ25 من تموز/ يوليو القادم.