جئتُ رأيتُ وفشلتُ

جاء بايدن إلى الشرق الأوسط ليربح الانتخابات النصفية في أميركا فخسرها من هنا.
لبنان جبهة معلنة في حرب لم تندلع ويدفع ثمنها كأنها مندلعة
الحروب تهرب من الشرق الأوسط، وبعض دوله يركض وراءها

ليس لبنان بعد من الأولويات الدولية لكنه حكما من الضرورات. حزب الله هو بين الأولويات للأسباب المعروفة وليس الدولة. الذين درجنا على اعتبارهم أصدقاء، يسعفون لبنان بالحد الأدنى من المساعدات الإنسانية وبالحد الأقصى من النصائح المجانية ليبقى حيا ولو مضرجا بالأزمات. هو جبهة معلنة في حرب لم تندلع ويدفع ثمنها كأنها مندلعة. "الأصدقاء" يعرفون أن في لبنان تقطن جميع صراعات الـمنطقة القابلة للحل سلميا أو المعرضة للحل عسكريا، لكنهم يتعاطون معه كأن مشاكله داخلية. "لهم أعين ولا يبصرون، ولهم آذان ولا يسمعون".
حل قضايا الشرق ممكن سياسيا لو تقدمت مكوناته البشرية واحتكمت إلى حقوق الإنسان والقوانين الدولية. لكن المعضلة أن أهل الشرق الكبير يقبلون على الخيار العسكري أولا فيما هو الخيار الأخير. الحروب تهرب من الشرق الأوسط، وبعض دوله يركض وراءها. لا مجد دون الانتصار، ويا ليتهم انتصروا. منذ فجر الفتوحات والعرب يأنسون إلى الحروب. قاتلوا قرونا من دون قضية وطنية، ولـما أصبحت لديهم قضية كبرى، القضية الفلسطينية، أوقفوا القتال وراح بعضهم يقاتل البعض الآخر، وهرعوا إلى الحلول السلمية قبل نيل حق أو تسجيل انتصار. متعب أن ينتمي لبنان إلى هذه العروبة المتحورة، وممنوع عليه أن يستعيد العروبة الأصيلة.
وسط هذا الضياع التأسيسي تعيش دول الشرق الأوسط والخليج، في آن معا، مجموعة أحداث مجهولة المسارات والنهايات: حرب ساخنة وحرب باردة وحرب اقتصادية وحرب كيانات، بموازاة مجسمات لتحالفات يتلعثم أعضاؤها في الجهر بها لعدم متانتها وخشية أن تعتبرها إيران وروسيا والصين حلفا عسكريا ضدها بمشاركة إسرائيلية ورعاية أميركية. وأتت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لتؤكد الشكوك الخليجية، والعربية استطرادا، في صلابة السياسة الأميركية وثباتـها وصدقيتها.
ليس المهم أن يؤكد بايدن أن أميركا هنا ولن تغادر الـمنطقة. لم تكن الولايات المتحدة الأميركية غائبة عن الشرق الأوسط أكثر مـما كانت عليه لدى وجود الرئيس بايدن فيه. مشكلتنا مع أميركا ليست بوجودها أو عدم وجودها عسكريا في الشرق الأوسط، بل في فقدان قرارها السياسي بالمواجهة أكانت حاضرة أم غائبة. وإذا كان البعض يعتبر أن "تفاهمات" بايدن في إسرائيل والسعودية تحتاج وقتا لترى النور، فالأخطار داهمة والقضايا الأساسية التي أثيرت ظلت خلافية مع الإسرائيليين والفلسطينيين والخليجيين. لم يرض بايدن احدا. ولأن الأمر كذلك، بدأت إيران وروسيا تمتحنان هذه "التفاهمات" انطلاقا من قمة طهران (18 تموز)، ومسيرات حزب الله باتجاه إسرائيل، وزيادة التخصيب النووي، واحتمال الاعتداء على مواقع أميركية في العراق وسوريا. لقد جاء بايدن إلى الشرق الأوسط ليربح الانتخابات النصفية في أميركا فخسرها من هنا. ويستطيع أن يردد بدون تردد: "جئت رأيت وفشلت".
في هذا الوقت تتفاقم الأزمة اللبنانية بين مجلس نيابي مجهول الأكثرية والأقلية، وحكومة مستقيلة تطمح أن تبقى إلى آخر العهد وربما بعده، وأخرى يتعمد المعنيون عدم تشكيلها، واستحقاق رئاسي رهن التطورات الإقليمية. رغم ذلك، لم يتردد أقطاب بيان قمة جدة (16 تموز) في تخصيص حيز للوضع اللبناني على غرار ما فعلت اللقاءات العربية والإقليمية الأخيرة، وقد ناهز عددها الاثني عشر لقاء في أقل من شهر. حضر لبنان وغابت الدولة اللبنانية. كانت الدولة العلية منهمكة بتوقيف أسقف ماروني في إطار "استعادة حقوق المسيحيين"، وبقذف كيدها على رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان. 
بقدر ما يفترض بالدولة اللبنانية ألا تتورط في أحلاف، وخصوصا في أحلاف قيد الإنشاء وسريعة العطب، يتوجب عليها أن تكون متابعة إياها ومراقبة أكانت الأحلاف شرقية أم غربية، وعلى بينة من التحولات الاستراتيجية الجديدة التي تلوح في أفق الشرق الأوسط. انطلاقا من مفهوم الحياد، يستطيع لبنان أن يبتدع خيارات جديدة وينسج علاقات عابرة التحالفات والمحاور في مرحلة تشهد تعديلا أساسيا في النظام العالمي، وبالتالي في العلاقات الإقليمية والدولية. وما عدا مؤسسة الجيش التي تحتفظ باحترام داخلي وخارجي، أنى للبنان أن يلعب هذا الدور الرائد، وحكام دولته في غيبوبة سياسية وعزلة عربية ودولية وفي محور المشاكل لا الحلول وفي جدلية الهدم لا البناء؟
إن تخصيص لبنان في جميع القمم واللقاءات، ينبئ ببدء التحضير للمؤتمر الدولي الخاص بلبنان كما طالب به البطريرك مار بشارة الراعي في 07 شباط 2021. فهذه الالتفاتات، إضافة إلى بيانات أمين عام الأمم المتحدة ومجموعة الدعم الدولية الخاصة بلبنان ومهمة الموفد الأميركي بين لبنان وإسرائيل، تبلور تدريجا إرادة سياسية عربية ودولية لمعالجة القضية اللبنانية. لكن هذا المؤتمر قد يضيع، بل قد يتحول ضد سيادة لبنان ووحدته وخصوصيته ما لم نحضر أنفسنا لانعقاده ونطرح حلولا وطنية للكيان اللبناني، وتعديلا واقعيا للنظام المركزي، وتصورا خلاقا لصيغة الشراكة. حتى الآن لا نعرف بعد اتجاهات المجتمع الدولي وما إذا كانت مصالحه ستصب في مصلحة لبنان. ليس "كل فرنجي برنجي".
مصدر القلق من الموقف الدولي الغربي أنه لا يتضمن إعادة النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين الموجودين في لبنان، لا يطرح آلية تنفيذية للقرارات الدولية المتعلقة بلبنان، ولا يفصل حل أزمة لبنان عن حلول أزمات المنطقة وكأن موجة الفيدراليات العراقية والسورية واليمنية والليبية ستبلغ ديارنا. ويزيد القلق حين يدعو بيان قمة جدة إلى "ألا يكون هناك أسلحة إلا بموافقة الحكومة اللبنانية". القراءة السياسية لهذه الجملة الدمثة الألفاظ تفتح الباب، في ظني، لإمكانية اعتراف حكومة لبنانية ما بسلاح حزب الله ــــ وغيره ربما ــــ في إطار الشرعية اللبنانية. هل ملاحظتي هي سوء ظن أم سوء قراءة العربية؟