جولة على بساط الحكي في 'حكايات من سراديب الزمن'
تحتلّ الحكايةُ مكانةً هامّةً في الأدب العربي، وهي تُعتبر تراثاً ثقافيّاً مشتركاً تحمل في طيّاتها قيم المجتمع وتقاليده، كما تُساهم في انتقال التجارب والحكم عبر العصور، ولا تزال الحكايات محافظةً على طابعها الشفويّ منذ قديم الزمن رغم تطوّر العديد منها وانتقالها من المشافهة إلى الكتابة، ممّا يحفظها من التلف والاندثار. وتختلف أنواع الحكاية بحسب صحة حدوثها؛ فهناك حكايات واقعيّة وأخرى خرافيّة يمكن أن تُسمّى أساطير ويُطلق عليها البعض صفة حكاية شعبيّة، وقد جاء في معجم السرديات: "تشترك مصطلحات: أسطورة وحديث ونبأ وخبر وقصص في الإحالة على الكلام المُخبر بشؤون الماضين وسيرهم وأخبارهم في زمن ولّى وانقضى." وقد ذهب بعض الفلاسفة مثل بول ريكور Paul Ricoeur في كتابه Encyclopedia Universalis, Mythe إلى اعتبار "الأسطورة حكاية تقليدية تروي وقائع حدثت في بداية الزمن وترمي إلى تأسيس أعمال البشر الطقوسية حاضراً وبصفة عامة إلى تأسيس جميع أشكال الفعل والفكر التي بواسطتها يحدّد الإنسان موقعه من العالم".
وبالعودة إلى رواية "حكايات من سراديب الزمن" للروائي الأزهر الزنّاد، نلاحظ أنها تستلهم شكلها الفني وكثيراً من محتواها القصصي من الموروث الثقافي المشترك وتهدف ـ مثله ـ إلى الترفيه عن النفس وربما تعليم الدروس ونقلها بين الأجيال. فقد جاء في التصدير قول الكاتب: "يثقل الزمن على الكاهل فيُزجيه المرء في لعب النرد .. والحديث". بذلك يشير التصدير إلى علاقة الإنسان بالزمن وأهمية الحكاية أو الأسطورة سبيلاً لمواجهة الزمن ووطأته. والحديث هنا مفرد في صيغة الجمع فهو ينهل من بنية الخبر الأدبي ويجمع بين حديث الفرد وحديث الجماعة كما يتحول أحياناً إلى حديث النفس وهواجسها. وفي الرواية يتعدّد الرواة وتتوالى الحكايات التي تسرد قصص الأبطال من عالمي الإنس والجانّ والمردة وأنصاف البشر والشياطين.
البناء العام للرواية:
في الكتاب فصول تسعة معنونة مرقمة، يحمل الفصل الأول وعنوانه "طقّ عجيب" رقم صفر، وعنه تتوالد بقية الفصول لتختم بالفصل الأخير الذي اختار له الكاتب اسم "فراغ"، مما يزيد حيرة المتقبل فيتساءل: هل هو الفراغ من القصّ بعد الانتهاء من سرد كل الحكايات أم هو الإحساس بالفراغ بعد صمت النزلاء واختيارهم "راحة من عناء الحديث والرواية"؟
وللإجابة عن هذا السؤال نحاول استجلاء البناء الداخلي للرواية فنشرف على قصتين إحداهما تحتضن الأخرى. فأما القصة الكبرى أو القصة الإطار فهي قصة الحارس البدين الذي يفتتح الرواية في فصلها الأول ويختتمها في الفصل الأخير. وهو في بقية الفصول متابع منتبه ينصت إلى السجناء/ الرواة وهم يسردون قصصهم العجيبة. وبذلك تنكشف القصص المضمّنة وهي حكايات مستقلة منفصلة عن بعضها إذ يستلم فيها كل ليلة أحد النزلاء حبل السرد راوياً سيرته الماضية بينما هو قابع خلف القضبان داخل السرداب، يحاول تزجية الوقت ومغالبة الزمن. هذا البناء القائم على القصّ المضمّن يؤصّل رواية "من سراديب الزمن" في التراث العربي بل العالمي، فمظاهر الائتلاف جليّة بينها وبين قصص ألف ليلة وليلة وحكايات ابن المقفع وغيرها من الحكايات المتناقلة عبر التاريخ.
وإذا نظرنا إلى القصص المضمّنة وجدنا أنّها سبع، يرويها النزلاء السبعة، طيلة سبع ليالٍ، هي زمن القصّ، ولا يخفى على الدارس مدلول هذا العدد ورمزيته في الموروث الثقافي والديني إذ يحيل على عدد الأيام السبعة والسماوات السبع... لكنّ الكاتب أضاف ليلة ثامنة تبدو خارج الزمن الواقعي فيها يتخاطب النزلاء بكلام لا يسمعه الحارس المسكين فيبقى منصتاً متلهفاً لسماع حكاية جديدة لا هو يظفر بها ولا هو يفقد الأمل في سماعها، يرى كل شيء ولا يسمع أيّ شيء فيبقى معلّقاً بين أمل الحكي ويأس الصمت تماماً كما تركت شهرزاد شهريار "معلقاً بين السماء والأرض". ومثل الحارس، يصبح القارئ متعلقاً بالحكاية جاهلاً مصير النزلاء غير عليم بما عقدوا العزم عليه وما خططوا له للنجاة والظفر بحياة جديدة خارج القضبان وربما في عوالم الغيب والمجهول.
أركان القصّ تتلبّس بمظاهر العجيب:
تصطبغ الرواية بألوان العجيب وخصائص الخرافة منذ العتبة الأولى وهي العنوان الذي يعود بنا إلى الزمن السحيق وسراديب الماضي، يستقي منها حكايات توائم بين الواقعيّ والعجيب في تناغم مذهل وائتلاف متناسق حتى التماهي بين العالمين. بل يُغذّي أحدهما الآخر لشدّ المتقبل إلى الحكاية وجعله أسيراً للقصة ومصير أبطالها يسير على حذر بين عالمين متناقضين: عالم الإنس وعالم الجانّ، حدود الحقيقة وفسحة الخيال، لكنّ هذه العوالم اللامتناهية ما تنفكّ ـ بفضل متانة القصّ وإحكام البناء ـ تتآلف جميعها لسرد حكايات تبدأ في الواقع لكنها سرعان ما تخترق سُجف المجهول وتتناثر أحداثها بين أزمنة متباعدة متنافرة وفي أمكنة متعددة بعضها موغل في القدم والبعض الآخر يشرف على عتبات المستقبل وقادم العصور. ونتيجة لهذا الانفتاح الجامح للرواية على كل الأبعاد نلاحظ أن كل أركان القصّ قد تلبّست بمظاهر العجيب واستبدّ المتخيّل بالواقعيّ وأظهر ما يكون ذلك في عنصر الزمان الذي نال حظاً من العناية والدراسة، لكنّ المكان أيضاً في رواية "السراديب" لا يقلّ قيمة عن الزمان ودلالة على عمق الرواية وأهمية ما ترمي إليه من أبعاد فكرية وأهداف أخلاقية.
المكان بين الواقعيّ والعجيب:
"في المكان صمت رهيب" بهذه العبارة تبدأ رواية سراديب الزمن، وباعتماد التدرّج في الوصف والانتقال إلى الوصف التفصيلي وأحياناً التشريح في الوصف يزداد المكان وضوحاً وتظهر مكوناته: الجدار المحفور عميقاً في الأرض، السقف والأرضية، آثار المعاول والخطوط... هذه العناصر المكونة للمكان الأول في الرواية وهو الكهف أو السرداب رسمها السارد بلون واحد هو لون الحجارة والتراب. ثم تتحول الجدران إلى لوحات من الأخاديد مع وجود صفحة ملساء وإزميل معلّق مجهول المصدر تعددت حوله القصص والتأويلات فيتحول إلى عنصر فاعل ومؤثر لا فقط في المكان، بل كذلك في كل النزلاء الذين مروا بالمكان، مما يبعث الحيرة حول حقيقة المكان وهوية المقيمين فيه. وسرعان ما يسعفنا السرد القصصي من خلال تقنياته بتقديم شخصية الحارس: صفاته الخِلقية، سلوكه، علاقته بالمكان ومكوناته، ممّا يضاعف أهمية المكان في الرواية، هذا بالإضافة إلى عديد التفاصيل الأخرى التي ألحقها السارد والتي تضفي مزيد الأهمية والتشويق، ومثال ذلك وصفه لغرفة الحارس بأنها مظلمة ووجود بطحاء كبيرة خارج الكهف تنتصب فيها مشنقة، كل هذه العناصر المكونة للمكان تدور ـ في الحقيقة ـ حول عنصر أساسيّ هو محور الفصل الأول في الرواية وهو خيطها النّاظم لكل ما سيأتي من أحداث ولكل ما سيروى من حكايات وقصص. هذا العنصر هو "الطقّ العجيب" الذي استمرّ طيلة ردهات الرواية دون أن يكون مكشوفاً دائماً، بل كان صوته يعلو تارة ويخفت تارة أخرى، صوته يسير في حركة عكسيّة متقابلة مع ارتفاع نسق الحكايات وانخفاضه. هذا الطق العجيب يبدأ بوتيرة قوية شديدة أول الرواية وينتهي خفيفاً خافتاً في آخرها ولا نكتشف حقيقته إلا في الفصل الأخير عندما يبلغ القصّ غايته وتبوح الخرافة بكل خباياها. وبين البداية والنهاية يتواصل صوت الطقّ العجيب ويتحول إلى لازمة إيقاعية توقّع أسلوب الرواية وتزيدها غرابة.
لقد انعكست خصائص المكان في الرواية على كل أركان القص فاكتسبت مثله صفات عجيبة وأحياناً غرائبية. ففي الليلة الأولى مثلاً رسم السارد ملامح شاب يافع عزم على الزواج فأحضر بنّاء شيخاً يُعدّ له عشّ الزوجية وما يلزمه، لكن هذا البنّاء كثيراً ما يتوقف عن العمل ويقوم بأشياء غريبة غير مفهومة "فكأنه قد غاب عن الوجود" ص 27، ثم يصاب بالمرض ويحضر الشاب المقبل على الزواج لحظة احتضاره فيجلس بقربه ويعجز عن فهم ما يقوله الشيخ لكنه يسمعه بقلبه "أتشرّب ما يرتسم على شفتيه من حركات"... ويتجسّد اللامرئيّ "كنت أرى الحروف تتطاير.. كلامه ينتظم في أفراق من الأفكار ترفرف بأجنحتها في الفراغ" ص 30. وسرعان ما يتشرّب الشاب اليافع حكمة الشيخ ويبدأ التحوّل تدريجياً عن صفاته الحقيقية في الواقع ليحلّق في مشاهد من التخييل القصصي العجيب "أراني أتباعد عالياً في الفضاء الشاسع الرحب بلا جناح حتى بان لي البحر.." ص 31.
وبعد أن أصاب البطلَ ضربٌ من التّحوّل سرعان ما تُصاب عناصر المكان بنوع من التّحويل. فها هي لفافة القماش تتطاير في الهواء على مهل، ثم يخرج منها مفتاح يدور بمفرده في القفل والجدار ينبثق من الفراغ بينما يظهر فجأة شابّ مرسل اللحية أبيض البشرة والثياب" ص 35.
يزدحم المكان بالصور المتخيلة والعناصر تعبّر عن نفسها بمفردها بعد أن تخلّى السارد ـ أو تظاهر بذلك ـ عن وظيفته الأساسية تاركاً المجال للقارئ لينحت ما يشاء من اللوحات الفنية الخيالية ويحلّق بعيداً عن عالم المادة مستكشفاً عوالم الأسطورة والخرافة التي مثّلت رافداً أساسيّاً لكامل الأثر اعتمده الكاتب في هندسة الفضاء العامّ للرواية إضافة لاستلهامه من التاريخ القريب والبعيد محطات هامة غيّرت مسار البشرية عامة والحضارة العربية خاصة، فما الغاية من توظيف الخرافة والأسطورة في رواية "سراديب الزمن"؟
إعادة الاعتبار إلى الأسطورة:
تشترك الخرافة مع الحكاية الشعبية والأسطورة في عدة خصائص منها توظيف العناصر السحرية في القصّ، والخروج عن منطق الممكن والمعقول. كما تشترك كلها في صفات التركيز والاكتفاء بالضروريّ من الكلام، ولعلّ أهمّ ما يشدّها ويقربها من بعضها هو الغايات التي ترمي إليها. فالحكاية الشعبية تهدف إلى تصوير الشرّ لتنفير المتقبل منه عبر تحديد النهاية المأساوية للبطل، وكذلك الخرافة تسعى إلى إبراز طبيعة البطل وتوظيف عناصر سحرية لجعله يصل إلى نهاية سعيدة. وبذلك تتجلى الوظيفة النفسيّة للقصّ العجيب والمتمثلة في تحقيق كل ما هو مرغوب لكنه غير ممكن في الواقع، وهو ما عبّر عنه الكاتب "بتزجية الوقت". ذلك أنّ همّ النزلاء في الرواية هو التحرر من الزمن والظفر بالحرية التي طالما ناشدتها الإنسانية بشتى الوسائل، وقد أكّد عالم النفس فرويد قيمة الأسطورة واعتبرها "حلم شعب". وتساهم الأسطورة في توارث ثقافة المجتمع ومفاهيمه وتعاليمه، وبذلك تقوم بترسيخ بعض القيم المشتركة وحفظ الذاكرة الجماعية.
لقد انصهرت في رواية السراديب عدة أجناس أدبية بعد أن أترعها الكاتب بسحر الأسطورة وعطر الخرافة، صاغها في قالب سردي مشوّق لا يقتصر على التسلية بل يجمع بين المتعة وترسيخ القيم إضافة إلى الدعوة إلى إعادة النظر في التاريخ الذي مازال ساكناً فينا منذ ماضينا السحيق.
الهوامش:
1 - مجموعة من المؤلفين: معجم السرديات، إشراف د. محمد القاضي، دار محمد علي للنشر تونس 2010
2- الأزهر الزناد: حكايات من سراديب الزمن، دار بوب ليبريس للنشر، تونس 2025