حتى حروب الكبار صغيرة

يجتهد بوتين في إضافة حرب حضارية وقيمية ضد الغرب إلى الحرب العسكرية في أوكرانيا.

المفاوضات الجارية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية كشفت مرة أخرى عدم استيعاب غالبية الأطراف اللبنانية والدولية بعد الأزمة اللبنانية الحالية ولا عمق القضية اللبنانية التاريخية. وحتى لو استوعبتها، فليست مستعدة لدفع ثمن الحل الصحيح. والوفود الأجنبية التي أرسلت لحل أزمة لبنان في ربع الساعة الأخير، وهي لـم تحلها في ربع قرن، تأتي هنا في مهمات تدرج، خصوصا أنها لم تنجح في حل أزمات بلدانها ولا أزمات بلدان أخرى. وفي إطار مهمات التدرج، زودت بأسماء بمرشحين "جينيريك" لرئاسة الجمهورية كأن لدينا، مثل الدواء، ندرة مرشحين أصلاء (براند). و"من الجينيريك جود".

إذا كان اهتمام الدول الغربية بلبنان ناتجا عن تراكم أزماته ودنو استحقاقاته الدستورية والسياسية، فهو نابع أيضا عن قرار أميركي/أوروبي بمحاولة "تصفية" القضايا الإقليمية بعدما تفاقمت حرب روسيا على أوكرانيا، وتكاد تتحول مواجهة متعددة الأوجه بين روسيا من جهة والاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي من جهة أخرى. وباستثناء المعركة العسكرية المباشرة، والتهديد بالسلاح النووي، المواجهة بين روسيا والغرب مفتوحة اقتصاديا وماليا وتجاريا وغازيا، ومرشحة لأن تتطور في المرحلة المقبلة ما لم يحدث تغيير طارئ في روسيا، حيث نقمة الشعب الروسي على الرئيس فلاديمير بوتين تزداد.

إن إقدام روسيا بوتين على التهديد باستعمال السلاح النووي، بمنأى عن جديته أو مناورته، سيدفع الدول المشاركة في مؤتمر فيينا حول الـملف النووي الإيراني إلى أن تكون أكثر تشددا في شروطها لئلا يصبح التهديد بالنووي عادة لا نعرف متى "تنقش".

عوض أن تتعزز قوة روسيا بضمها مناطق دونتسك ولوغانسك (شرقي أوكرانيا)، وكرسون وزابوريجيا (جنوبيها)، وتخلق التفافا شعبيا حول بوتين، وتقرب فرص المصالحة، حصل العكس: أصبح بوتين بنظر العالم رئيسا منبوذا ومعزولا وخارج نظام العلاقات الدولية، واتفق قادة الغرب على وضع عقوبات نوعية جديدة على روسيا، وأعلن رئيس أوكرانيا زيلينسكي أن "لا مجال لإجراء أي مصالحة مع بوتين طالما يحتل تلك المناطق الأربع". والحقيقة، أن أي مفاوضة مع دولة احتلال هي استسلام لا مصالحة، خصوصا حين دولة الاحتلال تعتبر الأرض المحتلة حقا تاريخيا مكتسبا لا رجوع عنه.

إن البشرية تمشي بمحاذاة مجموعة حروب عالمية من دون أن تدري. فما يجري هو صراع عالمي بحكم الأطراف المشاركة فيه، بحكم توزعها جغرافيا، وبحكم القضايا التي يدور الصراع حولها. لكن الدول الكبيرة تسعى إلى تفادي المواجهة العسكرية لأن إعادة بناء العالم مسألة خطيرة أكثر مما كانت عليه بعد حربي 1914/1918 و1939/1945. لكن الرهان الذي يسعى إلى تحقيقه زعماء الغرب هو إقامة تحالفات سلمية، وخوض حرب جماعية سلمية ضد روسيا، والقيام بانقلاب سلمي لإسقاط فلاديمير بوتين، وحصر الساحة العسكرية في أوكرانيا. إلا أن ما يتغاضى البعض عنه أمران: 1) تكاد أوروبا المتحدة تكون ضحية جانبية بين روسيا وأميركا بسبب أزماتها الاقتصادية المرتبط جزء منها بموضوع الطاقة الذي تستورده من روسيا. 2) ارتباط توجهات السياسة الخارجية الأميركية بالانتخابات الأميركية النصفية في شهر تشرين الثاني المقبل. وطبيعي أن يحاول الرئيس جو بايدن استثمار مواقفه المتقدمة في الحرب الروسية الأوكرانية لتعزيز موقعه الضعيف، كما يسعى فلاديمير بوتين إلى استغلالها لإحراج بايدن لصالح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والحزب الجمهوري.

رغم كل ما يقال عن الرئيس بوتين في الإعلام الغربي، ورغم كل السلوكيات الهجينة التي اتبعها في السنوات الأخيرة، لا نستطيع أن نختصر الشر كل الشر في بوتين، والخير كل الخير في بايدن والغرب عموما. يجتهد بوتين في إضافة حرب حضارية وقيمية ضد الغرب إلى الحرب العسكرية في أوكرانيا. لقد طرح إشكالية الفكر الغربي الحديث الذي نزع اعترافه بالقيم الطبيعية والتاريخية للبشرية وجعل ـــ أي الغرب ـــ أي انتقاد للأفكار الجديدة مرادفا للرجعية والفاشية ومناقضا لحقوق الإنسان، حتى أصبح إجلال الله والوطن والعائلة رجسا من عند الشيطان.

إن إدخال بوتين "الحرب القيمية" والتركيز على ضرب التشريعات الغربية الحديثة من شأنه ـــ على الأقل باعتقاده - أن يقوي الاتجاهات التقليدية والوطنية والقومية والمتطرفة في أوروبا وأميركا. إن هذه الأفكار بدأت تجتذب الشعوب في مجتمعات أوروبا وأميركا وتوجه خياراتـهم الانتخابية والسياسية، وآخر مثال صارخ هو الانتخابات الإيطالية وقبلها في النمسا والسويد وهولاندا، إلخ... الأهم من كل ذلك تاريخيا، أن بوتين في الصراع الدائر يحاول إعادة نقل "بيزنطية" إلى الغرب في مواجهة روما الجديدة (الغرب)، عله يقسم أوروبا ويعيدها من مؤتمر فيينا 1815 إلى ما قبل مؤتمر "واستفاليا" سنة 1643 حين انتظم العالم الأوروبي في حدود دولية وفي دول كيانات.

لقد استخف الغرب عموما بتفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991 وتعامل معه كدولة خسرت حربا عالمية على جبهات القتال. كان يفترض بالغرب أن يلتقط بنبل تلك اللحظة التاريخية العظمى فيتعامل مع روسيا، وهي عظمى قبل الاتحاد السوفياتي وبعده، على الأقل كما تعاملت دول أوروبا المنتصرة عسكريا على قائد فرنسا نابوليون بونابرت. آنذاك عقدت دول أوروبا بين 08 أيلول/سبتمبر 1814 و09 حزيران/يونيو 1815 مؤتمرا شاركت فيه فرنسا عبر الديبلوماسي الفرنسي تاليران، وتـم الاعتراف مجددا بالملك لويس الثامن عشر ملكا على فرنسا، وتصالحت أوروبا مع فرنسا. أما سنة 1991 فقد تصرف الغرب مع روسيا كدولة خارج منظومة الدول الكبرى فاستاءت روسيا ولم يربح الغرب شيئا. لقد حان الأوان لأن يقر العالم الغربي والشرقي بأن الانتصار ليس مرادفا لإخضاع الآخرين، وأن الاستقرار ليس موازيا لمعادلة الغالب والمغلوب. ولنا نحن اللبنانيين ألف عبرة نستخلصها من أحداث روسيا وأوكرانيا التي تنتقل إلى الفصل الثاني.