حكومات برلمانية ليس لها من اسمها نصيب في مستقبل الأردن

علام كل هذا البحث والدراسة والنقاشات اذا كان الهدف هو تعزيز سلطات الملك الواسعة بالفعل حسب الدستور الحالي، وكأن الدولة وهي في عمر المئة عام ترتد مثل طفل صغير يحتاج إلى وليّ أمر؟
الإلهاء هو العنوان الأكثر وضوحا للجهود المبذولة على مدى ستة اشهر
رئيس الوزراء سيكون عضوا من بين سبعة في مجلس للأمن الوطني برئاسة الملك

لا شيء يوحي بأن ثمة جدية أو مؤسسية في التعامل مع تشريعات الإصلاح السياسي منذ اعتمدتها اللجنة الملكية التسعينية في تشرين الأول مرورا بالتعديلات"المفاجئة" التي أقرتها الحكومة إلى أن أعلن مجلس النواب انه سيبحثها من جديد وعلى نحو موسع مع مجموعة من الخبراء والجهات ذات العلاقة رغم أن الحكومة طلبت من المجلس منح التعديلات صفة الأولوية والاستعجال.
الهدف الرئيسي من تعديل التشريعات يتمثل في الوصول الى حكومات لا يعينها الملك بل تشكلها الأحزاب في البرلمان. هذا العنوان العريض والتغيير التاريخي في نظام الحكم يمكن تحييده بسهولة وفاعلية من خلال التعديلات المقترحة على الدستور.
انشغلت اللجنة الملكية على مدى أربعة أشهر بمسودات تعديل الدستور وقوانين الأحزاب والانتخابات والحكم المحلي وسلمتها للملك، ثم وضعت الحكومة لمستها الفارقة على المقترحات بتعديل دستوري ينشئ "مجلس الأمن الوطني والسياسة الخارجية" برئاسة الملك.
رئيس الحكومة الموعودة مستقبلا بأن تتشكل في البرلمان، ليس إلا عضوا في المجلس المطلوب ضمن مسودة التعديل الدستوري، إلى جانب وزراء الدفاع والخارجية والداخلية وقائد الجيش ومدير المخابرات بالإضافة الى عضوين يعينهما الملك.
لا تزال التساؤلات قائمة حول غاية الحكومة من إضافة هذا التعديل، وفيما إذا كان "تبرعا" منها أو بتأثير من مستشاري الملك أو الدوائر الأمنية. ولكنه بالنتيجة يمثل تحجيما لدور رئيس الحكومة والوزراء سواء عيّنهم الملك، أو اختارتهم أحزاب الاغلبية في البرلمان بعد عشر سنوات أو نحو ذلك.
وفي حين يمكن مساءلة رئيس الحكومة والوزراء عن قراراتهم من خلال البرلمان أو حتى أمام القضاء، فإن قرارات المجلس المقترح ستكون محصنة بموافقة الملك "المصون من كل تبعة ومسؤولية"، وفقا للدستور.
كيف يمكن الوصول الى فهم واضح ومتكامل لمجمل العمل الذي قامت به اللجنة الملكية والحكومة نحو تحقيق هدف الحكومات البرلمانية، وهل المطلوب من مجلس النواب أن "يسلق" تشريعات من هذا العيار؟
أيضا عززت التعديلات الدستورية المقترحة من سلطات الملك الأخرى على حساب صلاحيات الحكومة التي لن يعود لها أي دور أو توصية بشأن التعيين في المناصب الحساسة وعلى رأسها قائد الجيش ومدير المخابرات ومدير الأمن العام، الى جانب رئيس الديوان الملكي ووزير البلاط وقاضي القضاة والمفتي.
كان المؤمّل من كل هذه العملية ان ننتهي من عهد المؤسسات السيادية المنزوعة الصلاحيات والفاقدة للثقة الشعبية. فالأردنيون يعلمون إن الحكومة تعمل تحت تأثيرات من خارجها ولا تتخذ القرارات المهمة من تلقاء نفسها. كما يعلمون ان البرلمان الحالي والبرلمانات التي سبقته لا تزال قاصرة عن أداء دورها الدستوري في التشريع والرقابة على الحكومة.
حتى اللجنة الملكية التي تكفلت بإعداد مقترحات التعديل على الدستور وقوانين الحياة السياسية وليس من بينها تشكيل مجلس الأمن الوطني، لم تكن أفضل حالا في عيون الناس الذي تنبأوا مبكرا بأنها لن تضيف شيئا ملموسا أو مؤثرا على المشهد السياسي. وهو ما تؤكده المسودات التشريعية المعروضة الآن تحت قبة البرلمان.
اذن، ستكون لدينا في المستقبل إذا أُقرت التعديلات الدستورية، حكومة بصلاحيات أقل وأضعف من الحكومة الحالية. أما صفتها "البرلمانية" فهي محل ارتياب ولامبالاة شعبية ما دامت الحكومة تتشكل وفق الأغلبية الحزبية في مجلس النواب.
مجلس النواب الحالي الذي لا يمثل 70 بالمئة من الناخبين ومثله المجالس التي سبقته، لا يشعر الأردنيون بوجوده ولا يعولون عليه في إحداث تغيير إصلاحي ولا يثقون بقدرته على مقارعة الحكومة بحكم التجارب التي شهدوها في أدائه، فضلا عن غياب التمثيل الحزبي بين النواب.
الدوامة لا تنتهي ايضا مع بقاء الأحزاب في دائرة الثقة المفقودة أو غير الموجودة أصلا داخل المجتمع الأردني الذي بات يراد له الآن أن يتحزب أو يرضى بالبقاء بعيدا عن المشاركة السياسية.
علام كل هذا البحث والدراسة والنقاشات اذا كان الهدف هو إفراغ الإصلاح السياسي من محتواه والسير بالبلد نحو تعزيز سلطات الملك الواسعة بالفعل حسب الدستور الحالي؟ وكأن الدولة وهي في عمر المئة عام ترتد مثل طفل صغير يحتاج إلى وليّ أمر يتابع تحركاته ويوجهها ويصححها.
الإلهاء هو العنوان الأكثر وضوحا للجهود المبذولة على مدى ستة اشهر نحو ما يقال إنه إصلاح وتفعيل للمشاركة السياسية، أو إن الخطوات المتخذة حتى الآن متعاكسة وغير منسقة وفيها ملامح من تضارب المصالح والصلاحيات بين أجهزة الحكم.
وما يعزز نظرية الإلهاء أيضا الصلة الوثيقة بين البدء في خطوات "تحديث المنظومة السياسية" في حزيران الماضي، والأزمة التي نشبت قبل ذلك بشهرين بسبب الانتقادات العلنية التي وجهها ولي العهد السابق الأمير حمزة لمؤسسات الحكم واتهامه إياها بالبعد عن الناس وإضعاف مشاركتهم في القضايا الوطنية.
وهكذا، فإن الاستعجال الذي طلبته الحكومة من البرلمان وإن كان لا يناسب الأهمية المفترضة لتشريعات الإصلاح السياسي، فهو منسجم مع العملية برمتها. وليس من المتوقع أن يعارض البرلمان توسيع سلطات الملك.
لا أحد بعد هذا كله في وسعه أن يقنع الناس بالانخراط في المشاركة السياسية ما دام الهدف هو تأثيث المشهد السياسي بالمزيد من ديكورات الحكم التي عاصرها معظم الأردنيين ويعرفون مدى الضعف في أحجامها وأدوارها وتأثيراتها.