حل لبناني من تحت الماء

الذين يتوهمون أن لبنان مهاب بفضل سلاح حزب الله، يغفلون أن إسرائيل ترى لبنان ينهار ويتهدم ويتفتت ذاتيا بأيدي أبنائه من دون الحاجة إلى أن تزعج نفسها بشن اعتداء محدود أو موسع.
لبنان دولة على قارعة الأمم تتسول وجودها ولم يعد جسرا ولا ضفة ولا واحة
إذا لم تنشب الحرب الآن بسبب النزاع الحدودي فلن تنشب في المدى المنظور

صعب على أي دولة صديقة أن تلعب دور الوساطة بين لبنان وأي دولة أخرى، وبخاصة مع إسرائيل، في غياب موقف لبناني واحد. والأصعب أن تتحالف دولة أجنبية مع لبنان. المسموح، في ظل الوضع الراهن، أن نتعايش مع الأزمات، والأسهل أن نعادي العالم، لاسيما الدول الصديقة، ونواصل السير نحو الفوضى الشاملة. وفيما نرفض هذا السهل الممنوع، تبقى الإشكالية الكبرى أن هذه الدول ترى أن لبنان أصبح دولة فاشلة غير صالحة لإقامة علاقة ذات صدقية معها إذ هي غير قادرة على الالتزام بأي تحالف أو عقد أو وعد. وآخر تجليات ذلك أزمة الخطوط في مفاوضات الحدود البحرية. إن عجز الشرعية عن الإمساك بالقرار الوطني نزع عنها صفة المحاور الرسمي الشرعي الوحيد باسم دولة لبنان، وأتاح لبعض دول العالم التعاطي مع قوى الأمر الواقع فعليا ومع الدولة نظريا. وتكلل هذا الواقع الـمخزي أمس بإعلان منظمة الزراعة والأغذية (الفاو) وبرنامج الغذاء العالمي التابعين للأمم المتحدة أن لبنان من بين 20 دولة، منها الصومال، تشكل بؤرا ساخنة للفقر والجوع في العالم.

أمسى لبنان دولة على قارعة الأمم تتسول وجودها. لم يعد لبنان جسرا ولا ضفة ولا واحة. صار ملتقى الصراعات وقد كان ملتقى الحضارات. وصار ملتقى التطرف الديني وقد كان ملتقى الحوار بين الأديان. وصار بلد اللاشرعيات المسلحة وقد كان بلد الشرعية الديمقراطية. صار مصيره رهن الخط 23 والخط 29، وقد كانت الــــ 10452 كلم مربع الخط الفاصل بين الحرية والاستبداد. لم يعد لبنان عنوانا جاذبا بعدما أمعنت أطراف لبنانية وأجنبية في تفكيك وحدته واستباحة نظامه ودك مؤسساته وسبي دوره السياسي والاقتصادي والنهضوي. وإذا كان "القصف" استهدف جميع ركائز دولة "لبنان الكبير"، فلأن غاية هؤلاء إسقاط هذا الكيان المميز عن سائر كيانات الشرق.

والذين يتوهمون أن لبنان مهاب بفضل سلاح حزب الله، يغفلون أن إسرائيل لا تتغاضى عن لبنان لهذا السبب حصرا، بل لأنها ترى لبنان ينهار ويتهدم ويتفتت ذاتيا بأيدي أبنائه من دون الحاجة إلى أن تزعج نفسها بشن اعتداء محدود أو موسع. بين سنتي 1969 و1982 اتكلت إسرائيل على المنظمات الفلسطينية لضرب الصيغة اللبنانية، واليوم تتكل على حكم جانح وحزب الله اللذين عزلا لبنان عن العالم.

بعد العزل والانهيار، يتجه لبنان نحو الفوضى الشاملة. والظاهرة الخبيثة أن تعميم الفوضى في لبنان هو نقطة التقاء إيران وحزب الله من جهة والولايات المتحدة الأميركية ودول عربية وغربية من جهة أخرى. إيران وحزب الله يعتقدان أن الفوضى تنهي لبنان 1920 والميثاق والطائف، وأميركا والدول العربية والغربية تراهن على الفوضى للقضاء على حزب الله والنفوذ الإيراني. وماذا إذا كان رهان جميع هؤلاء هوائيا وعبثيا ونيرونيا وخاطئا؟

لا يزال لبنان يحتفظ بأرصدة عربية ودولية يمكن تحريكها لإعادة تثبيت وجوده ما إن تنبثق شرعية مستقلة بقيادة رئيس جمهورية جديد يحوز ثقة الشعب اللبناني والعالم. تتمثل هذه الأرصدة في القرارات الدولية، وإعلان بعبدا، ومجموعة الدعم الدولية، ومؤتمر سيدر، ومنتدى روما للجيش، ومجموعة الدول المانـحة، وإعلان جدة الفرنسي/السعودي، والمبادرة الكويتية، بالإضافة إلى وعود مختلفة مجمدة بانتظار تغيير الحكم اللبناني والسياسة اللبنانية.

وفيما كنا ننتظر أن يبدأ التغيير في الوضع اللبناني مع الانتخابات النيابية، أطل من أزمة ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل التي هي امتداد لأزمة ترسيم العلاقة بين إيران من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة أخرى. فلا يغيب عن بالنا أن المفاوضات اللبنانية/الإسرائيلية في الجنوب انطلقت مع انطلاق مفاوضات ڤيينا حول الـملف النووي الإيراني، وتعثرت قبل أشهر مع تعثر مؤتمر ڤيينا. وحين يأتي الموفد الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت، لن يحل المشكلة الناتجة عن وصول سفينة "إنرجين باور" قبالة حقل "كاريش" المتنازع عليه، إنما سيضعها في مسار ديبلوماسي رحبت به دولتا لبنان وإسرائيل بتبادل تصريحات تنزع فتيل المواجهة العسكرية.

إذا لم تنشب الحرب الآن بسبب النزاع الحدودي، فلن تنشب في المدى المنظور. وأساسا إن الحرب العتيدة ستكون إقليمية هذه المرة أو لا تكون. في دول الشرق الأوسط مئة نزاع جاهز للانفجار، لكن لحظة التفجير مرجأة إلى أن يفقد الغرب الأمل من الحلول التفاوضية مع إيران. حاليا، إيران لا تريد الحرب مع أميركا رغم أزمة المفاوضات في ڤيينا، ولا حزب الله يريدها رغم أزمة حقل "كاريش". بيد أن إيران وإسرائيل تبادلا تهديدات أول من أمس: إيران قالت عبر قائد قواتها البرية إنها "ستسوي تل أبيب وحيفا بالأرض". وإسرائيل أعلنت عبر رئيس وزرائها نفتالي بينيت أن "حصانة إيران انتهت وانتقلت من سياسة الاحتواء إلى سياسة الردع". وبالموازاة، أرسلت أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا تقريرا إلى مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية تبلغه فيه أن طهران تحجب معلومات بشأن تخصيب الأورانيوم. وتكتمل الصورة حين نكتشف أن إسرائيل تفاوض أميركا وروسيا للحصول على "حق" التصرف العسكري في الأجواء الإيرانية على غرار حريتها في الأجواء السورية.

لكن ثلاثة أجهزة استخبارات أوروبية أبلغت الأطراف المعنية بأزمة الحدود البحرية أن إسرائيل وحزب الله يتحاشيان الدخول في مواجهة عسكرية غير محدودة زمنيا وجغرافيا. قبول حزب الله بمعالجة أزمة الحدود البحرية ديبلوماسيا تطور لافت بعد القرار 1701، إذ بات الحزب يدرك ـــ مبدئيا ـــ خطر الاحتكام إلى السلاح، وبخاصة إلى سلاح غير شرعي.

النقطة الغامضة في ملف المفاوضات الحدودية هي: إلى أي مدى تخطط أميركا وإسرائيل لنقل التفاوض حول الخطوط البحرية إلى تفاوض حول السلام بين لبنان وإسرائيل؟ جريدة "واشنطن بوست" الأكثر تغلغلا في الإدارة الأميركية، ذكرت هذا الأسبوع أن ثمن الاجتماع المزمع بين الرئيس الأميركي جو بايدن وولي العهد الأمير محمد بن سلمان هو قبول المملكة بعقد سلام مع إسرائيل. بمنأى عن مدى دقة هذا الخبر، الفارق بين السعودية ولبنان أن في المملكة دولة واحدة قادرة على اتخاذ القرار الذي تريد، بينما لا دولة في لبنان ولا سلطة ولا قرار. كنا نمشي بين النقاط فصرنا نسير بين الخطوط. المهم ألا نصل إلى خطوط التماس.