حماية الأقليات في الشرق الجاحد

من كان ليعتقد أن السويد ستصبح أرض ميعاد السريان؟ ومن كان ليصدق أن كاليفورنيا ستعج بالارمن اللبنانيين والسوريين لا دولة ارمينيا المستقلة؟

في الشرق الجاحد تتقاطع المصطلحات والتسميات والألقاب، ويتناقلها الناس ببلاهة واسترخاء لتغدو مع الزمن أمراً واقعاً لا مهرب منه، وهنا تتسابق الأنظمة لاستثمارها وتجييرها لمصلحتها لمزيد من الإطباق على الأنفاس.

الأقليات مصطلح غائم ومريب في الوقت ذاته، ففي بلاد تَغيب وتُغيّبُ فيها الإحصاءات السكانية الدقيقة، وتصبح النسب المئوية للأديان والمذاهب والقوميات مجرد "كرة مطاطة" في أيدي سياسيين موتورين ومحللين استراتيجيين هبطوا بالمظلات على مقاعدهم في أستوديوهات مكيفّة في محطات فضائية تبيع الوهم للناس، وتمعن في النفاق والكذب والتحريض والتضليل.

ومنذ عقود كانت حقوق الأقليات ومصيرها ومستقبلها وبقاءها وتهجيّرها، كل ذلك كان لعبة دميمة وبشعة الملامح صنعتها أنظمة جعلت من الوحدة الوطنية شعاراً فقط يلّون الجدران بالوهم، وأحياناً تصبح الوحدة الوطنية تهمة لمن يرتأون أنه خرقها وعبث بها، وكأنه ارتكب جريمة الخيانة العظمى فيما هي بالحقيقة مجرد ديكور وليس حقيقة، مجرد تعايش وليس عيش مشترك، ومجرد تهمة معلّبة لمن يريد الخروج عن النص الرسمي الخشبي.

وبقي مفهوم الآخر مريباً وملتبساً. فأنا اعتبرك آخر، وانت تعتبرني آخر، لتغدو هوة الشكوك والريبة والتوجس والهواجس تكبر وتتعمق. فَمَنْ هو الآخر؟ اكتشفنا أننا جميعاً كنّا "آخر "!

ونَبَتَ أيضاً مصطلح الأقليات الذي ظل أيضاً ملتبساً وغامضاً.

فَمَنْ هم الأقليات؟

وعلى أي أساس نطلق هذا اللقب؟

هل المعيار ديني.. مذهبي.. طائفي؟

هل التعداد السكاني (الرجراج) هو المعيار؟

ومع ضغط إعلامي ممنهج بات الجميع يرون في أنفسهم أقلية يجب أن تبحث عمن يحميها.. لكن ممن؟ بالتأكيد من الآخر .

وفي غياب الدولة الوطنية ودولة المواطنة كان الصراع على الهوية يتعمق ويكبر، والخلاف على الهوية يستشري كوباءٍ يكتسح ما تبقى من بياض اللوحة الوطنية. لكن لم ننتبه إلى أن الأقلية والأكثرية في الدول المتحضّرة هو نصاب سياسي، وليس دينيا أو مذهبيا. فصناديق الإقتراع والحالة الديمقراطية تنتج وتفرز الأكثرية (الحكومة)، والأقلية (المعارضة) في البرلمان، وقد تؤدي انتخابات تالية لإنعكاس الامور فتصبح الأقلية أكثرية والعكس صحيح. هي لعبة ديمقراطية بحتة لامكان فيها للنسب المئوية السكانية ولا للاديان والطوائف والمذاهب، ولا حاجة فيها لأنظمة تدّعي حماية الأقليات وهي التي تستمد شرعيتها وبقاءها من هذه الصراعات الأقلوية.

هذا الالتباس المريب دفع باعداد كبيرة من الأقليات للهروب والهجرة من الفردوس، وكانت اعداد المسيحيين منها عالية نسبياً. اقباط أضحوا من تابعية انكلو-سكسونية. واشوريون اتخذوا من شيكاغو عاصمة. وسوريون كثر نقلوا متاعهم من وادي النصارى والشهباء والشام الى مدن العلم والرزق على الديمقراطية، وسواهم من فلسطينيين مقدسيين وحيفاويين وجليليين حطّوا الرحال في الاميركيتين واستراليا بعد انتظار في محطات دول الطوق.

من كان ليعتقد أن السويد ستصبح أرض ميعاد السريان؟ ومن كان ليصدق أن كاليفورنيا ستعج بالارمن اللبنانيين والسوريين لا دولة ارمينيا المستقلة؟

المشرق يعيش مرحلة مفصلية وكأنه يهرع نحو فراغ موحش وخلل ديمغرافي سيلقي بظلاله على مستقبل منطقة مشتعلة بحاجة لتوازن وتماسك في هذا الوقت بالذات.