خالد عزب يستنطق الحجارة لاستخلاص سردية السلطة
في زمن تتنازع فيه الأمم هويتها المعمارية، وتبحث الشعوب عن جذورها الثقافية وسط رياح الحداثة المتسارعة، يطلّ علينا المفكر والباحث الدكتور خالد عزب برؤية متأنية وعميقة في كتابه الجديد "السلطة والعمارة في مصر"، الصادر عن دار الشروق. هذا العمل ليس مجرد رصد تاريخي لتطور الطرز المعمارية الرسمية، ولا مجرد تأريخ للأبنية السياسية، بل هو محاولة جادة لاستكشاف العلاقة الجدلية بين السلطة والمكان، وكيف تُترجم البنية المعمارية إلى تجلٍ مادي للشرعية، والهيبة، والتوازنات الاجتماعية والسياسية.
الدكتور خالد عزب، الباحث الموسوعي المعروف، يمتلك تجربة طويلة تجمع بين التاريخ والعمران، وبين التأريخ الأكاديمي والخطاب الثقافي العام، وهو في هذا الكتاب يُقدّم قراءة لا توثيقية فحسب، بل تحليلًا فلسفيًا واجتماعيًا لما يُعرف بـ"عمارة السلطة". يتناول عزب كيف تنبثق الأشكال المعمارية من رحم السلطة، وكيف تلعب العمارة دورًا في ترسيخ مفاهيم الانتماء، والشرعية، بل وتحويل الفضاء العام إلى مجال رمزي تعبيري.
في كتابه، يتجاوز خالد عزب النظرة السطحية التي تربط بين السلطة والمعمار كأداة للسيطرة فقط، ويقدم قراءة متعددة الأبعاد تبدأ من التكوين النفسي والاجتماعي للمجتمع المصري، وتمرّ بمحطات التحول الكبرى في تاريخ البلاد، من المماليك إلى العثمانيين، ومن أسرة محمد علي إلى بدايات التحديث والدولة الوطنية. ويظهر في هذه القراءة كيف كانت القصور تمثل غلافًا رمزيًا للسلطة دون أن تكون موطنًا حقيقيًا لممارستها، إذ كانت أدوات الحكم مثل الجيش، والشرطة، ودوائر الأشغال والمالية، موزعة خارج إطار القصر، رغم خضوعها لشرعيته من بعيد. أما في النموذج الأسبق، كالحكم من القلعة، فكانت جميع أدوات الحكم متمركزة في مكان واحد، في تجسيد واضح لمركزية القرار. ومع انتقال مقر الحكم إلى المدينة، بدأنا نشهد تحولًا في طبيعة ممارسة السلطة، التي أصبحت تتوزع تدريجيًا بين رأس السلطة ومؤسسات الدولة، ثم إلى البرلمان، مع تصاعد دور النخب والصحافة والمجتمع المدني، ابتداءً من عهد الخديوي إسماعيل.
ولا يكتفي الكتاب بسرد الوقائع أو التحولات التاريخية، بل يعيد تركيب الذاكرة الجمعية من خلال قراءة العمارة كأثر دالّ، وكسجلّ حي. ويعيد عزب طرح الماضي لا بوصفه زمنًا منقضيًا، بل كتركيب حيّ لا تزال تأثيراته مستمرة في الحاضر. فالحجارة هنا ليست جدرانًا صامتة، بل نصوص مفتوحة تنبض برموز السلطة وأثرها.
بهذه المقاربة، يقدّم عزب عملاً فكريًا رصينًا يجمع بين التحليل التاريخي والرؤية الفلسفية، في لحظة نحن أحوج ما نكون فيها لإعادة فهم ماضينا السياسي والمعماري، من أجل وعي أعمق بالحاضر، واستشراف أوضح للمستقبل.
الكتاب يُعيد تأطير مفهوم "عمارة السلطة"، لا بوصفها واجهات مادية لهيبة الدولة، بل كبنية رمزية تعبّر عن تفاعل الحكم مع المجتمع، وعن المنظومة القيمية التي تفرضها السلطة أو تسعى لترسيخها. فالأبنية الرسمية، سواء كانت قصورًا أو دواوين أو مقارّ وزارات، ليست انعكاسًا جامدًا للسلطة، بل شواهد على التفاعل، والتفاوض، والشرعية المتبادلة بين الحاكم والمجتمع.
ينطلق خالد عزب من سؤال مركزي: كيف تعكس العمارة تحولات السلطة؟ وكيف تعبّر عن توازنات القوى داخل المجتمع؟ ويؤكد أن الإجابة على هذا السؤال ليست مباشرة، إذ أن العمارة لا تُفرض من الأعلى فقط، بل تتشكل في سياق تاريخي واجتماعي وثقافي، يعكس التبدلات في علاقة السلطة بمكونات المجتمع، من علماء وبيروقراطية ونخب مثقفة، إلى عموم الناس.
يستعرض عزب مراحل تطور مراكز السلطة في مصر من العصور الإسلامية الوسطى، حين كانت القلاع مثل "قلعة صلاح الدين" تمثل مركزًا للحكم العسكري، إلى انتقال الحكم تدريجيًا إلى قلب المدينة، كما في حالة قصر عابدين في عصر الخديوي إسماعيل، حيث أصبحت العاصمة كلها مساحة لممارسة السلطة، في نموذج أكثر تداخلاً بين رمزية المكان وبنية الحكم.
ويخصص الكاتب حيزًا مهمًا لدور العمارة في تشكيل الهوية الوطنية، متتبعًا الطرز المملوكية والعثمانية، وصولًا إلى التأثيرات الأوروبية في القرن التاسع عشر. ويُظهر كيف أن العمارة المصرية، حتى في ذروة التغريب، احتفظت بعناصر محلية مميزة — مثل الخط العربي والزخارف الإسلامية وقاعات العرش الشرقية — ما يشير إلى مقاومة ثقافية داخل الطراز المعماري نفسه.
ومن خلال تحليله لمفهوم "السلطة"، يبين خالد عزب أنها ليست مجرد فعل سياسي أو قرار فوقي، بل هي شبكة من العلاقات التي تنسجها قوى اجتماعية متنوعة: من العائلة، والطائفة، والطرق الصوفية، إلى مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. السلطة لا تعني الإكراه دائمًا، بل كثيرًا ما تعتمد على الإقناع، وتبرير القرار، وخلق مشروعية مقبولة. ومن هنا تأتي أهمية العمارة كأداة رمزية: فهي لا تفرض بالقوة، لكنها ترسّخ بالقناعة.
في ضوء هذه الرؤية، يعود الكاتب إلى مفهوم "العصبية السياسية" كما شرحه ابن خلدون، ليفسر من خلاله تحولات السلطة في مصر: من الأيوبيين إلى المماليك، ثم إلى العثمانيين، وأخيرًا إلى حكم أسرة محمد علي. وكل انتقال في السلطة، بحسب عزب، ترك أثره في الطابع المعماري، حيث تشكّلت أنماط جديدة للتعبير عن مركزية الحكم، أو توازناته. فبعد دخول مصر في المدار العثماني، ظهرت الطرز المعمارية المستلهمة من إسطنبول، سواء من حيث اللغة الكتابية التركية أو الأنماط الزخرفية، حتى وإن اختلطت بروح مصرية محلية ظلت حاضرة في كثير من التفاصيل.
وفي عصر محمد علي، تبلور التحول الكبير نحو النموذج الغربي في البناء، بما يعكس تغيرًا في الرؤية السياسية والثقافية للدولة. ويوضح عزب أن هذا التحول لم يكن معمارياً فقط، بل عكس رؤية جديدة للدولة، وارتباطها بالحداثة، والتنظيم، والانفتاح على أوروبا.
ويضيف المؤلف طرحًا بالغ الأهمية عن العلاقة بين المدينة والسلطة، حيث يؤكد أن المدينة ليست فقط فضاءً عمرانيًا، بل تمثل بنية سياسية وحضارية، ترتبط بمَن يحكمها، ومَن يبنيها، ومَن يرعاها. ويربط بين نشأة المدن والسياسة منذ العصور الإغريقية، حين ارتبط مصطلح "POLITIEA" الذي يعني اجتماع المواطنين في شؤون الحكم، بفكرة المدينة ذاتها (POLIS). وفي مدينة مثل أثينا، كانت المشاركة السياسية مرتبطة بالبنية العمرانية التي أفرزت مؤسسات مثل الأكروبول ومجلس الجماهير. هذا النموذج يعيد طرح السؤال: ما علاقة البناء بالفعل السياسي؟ وما دور العمارة في إنتاج نظام الحكم أو تعزيزه؟
في نظر خالد عزب، لا يمكن فصل عمارة السلطة عن السياق التاريخي والاجتماعي، فالمباني ليست مجرد آثار ساكنة، بل هي وثائق حية تُجسّد قرارات سياسية، وصراعات اجتماعية، وتوازنات معقدة. وكل عمارة تحوي في طياتها قصة عن عصرها، وأشخاصها، وأفكارها. لذا، فإن قراءة هذه العمارة تحتاج إلى عين تُدرك أن ما يُبنى بالحجر قد يكشف عن ما يُبنى بالسلطة، بل ويضيء دروب المستقبل.