خطأ بشري!

يكتشف الإيرانيون مرة أخرى هزال دولتهم وركاكة نظامهم. بدى تلعثم طهران في تفسير لغز سقوط الطائرة جبانا يشبه سلوك صغار اللصوص وهواتهم.

لا يهتم نظام الجمهورية في إيران بمصلحة إيران والإيرانيين. تعتبر الأنظمة الإيديولوجية نفسها "حقيقة مطلقة" وأنها لا تنتظر شرعية العامة (الجماهير) فهي طليعتهم والأقدر على تقرير مصائرهم. هكذا كانت أنظمة الاستبداد في العالم على مدى التاريخ، وخصوصا ذلك الحديث، فما بالك حين يتقدم النظام بصفته مقدسا يقوده ولي فقيه هو نائب صاحب الزمان. ما يهمّ هذا النظام هو سلامة ذاته ومناعة بقائه حتى لو كان ذلك على حساب راهن البلد ومستقبله وعلى حساب الإيرانيين في مساراتهم ومصائرهم. والمعادلة بسيطة. النظام ليس آلية لإدارة البلد، وهو ليس وسيلة من أجل تحقيق برامج الرخاء والازدهار، وهو ليس وسيلة لتحقيق الهدف، بل هو الهدف بذاته الذي من أجله يصبح البلد وأهله تفاصيل هامشية.

لم يكن إسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية خطأ بشريا. الأمر يأتي نتاج قيادة بشرية تسوق إيران إلى الاصطدام بالجدار تلو الجدار. لم تكن تلك القيادة في إيران مهتمة بأمر المواطنين في إيران، على الأرض أو في الجو. أطلق الحرس الثوري صواريخه الباليستية ضد قاعدتي عين الأسد وأربيل في العراق مستهدفا قوات أميركية. وبغضّ النظر عن الشكل "المدبّر" للرد الإيراني على اغتيال الولايات المتحدة للجنرال قاسم سليماني، إلا أن احتمال أن يُقابل الرد الإيراني بردّ أميركي كان وارداً. وجرى منذ أيام أن أقفلت الخرطوم أجواءها ومطارها بسبب إطلاق نار صادف بالقرب من ذلك المطار. المسألة بديهية ومن أبجديات الأمن والأمان، فما بالك أن الأمر في إيران كان إطلاقا لصواريخ عابرة للحدود.

ومع ذلك اتخذت القيادة الإيرانية، وربما من قبل أعلى سلطة في البلاد، قرارا بشريا بعدم إغلاق الأجواء في البلاد والاستمرار في فتح مطاراتها أمام حركة الإقلاع والهبوط وكأن شيئا لم يكن. وعلى هذا فإن سقوط أي طائرة مدنية هو شبه حتمي في هذه الظروف سواء كان ذلك عبر نيران إيرانية، كما حصل مع الطائرة الأوكرانية، أو عبر صواريخ العدو "الحرام" الذي قد يرد احتمالا على صواريخ "حلال".

استقل الركاب طائرتهم بسلام. كانوا واثقين، كما في مطارات العالم قاطبة، بأن في مطار الخميني من يعرف قواعد الأمان. لم يكن في خلد هؤلاء بأن قرارا بشريا -سيُلبس لاحقا لبوس الخطأ البشري- اتخذ لإعدام كل ركاب الطائرة الإيرانية المنكوبة. قيل في تفسير أمر هذا القرار إن طهران تعمّدت المحافظة على أنشطة مطاراتها لعل في حركة الملاحة المدنية ما يشكل دروعا بشرية تقي مواقع البلاد العسكرية شرور قرار تأخذه الولايات المتحدة برد مزلزل على رد أرادته طهران خجولا غير مزلزل ضد القاعدتين الأميركيتين.

في ثنايا تلك الفرضية أن "أخلاق" العدو ستردعه عن شن هجمات صاروخية قد تصيب طائرات مدنية تحلق من وإلى مطارات إيران. وفي تلك الثنايا أيضا ما اتضح لاحقا من أن "أخلاق" جمهورية الولي الفقيه تبيح عبر "خطأ بشري" تفجير طائرة مدنية في سماء عاصمة البلاد، ذلك أن منظومة الدفاع لا تملك موهبة التفريق بين طائرة مدنية وبين طائرة عسكرية أو صاروخ باليستي خبيث.

يكتشف الإيرانيون مرة أخرى هزال دولتهم وركاكة نظامهم. بدى تلعثم طهران في تفسير لغز سقوط الطائرة جبانا يشبه سلوك صغار اللصوص وهواتهم. دفع النظام الذي عرف منذ اللحظة الأولى هول فعلته الشنيعة بنسخ عفنة من كذب يتوالى. خرجت مؤسسته المعنية بالطيران المدني تدبج الحجج التي تنفي تماما أية مسؤولية إيرانية عن مقتل 176 راكبا (بينهم 15 طفلا) غالبيتهم العظمى من المواطنين الإيرانيين. أثبتت القيادة البشرية في إيران أنها تستغفل هذا العالم وتخدع مواطنيها ولا تدرك أن "حبل الكذب قصير" وأن "سهر" أجهزة المخابرات الدولية وانتشار الأقمار الصناعية الدولية في فضاء البلد سيرصد بدقة ماذا حدث للطائرة ويكشف أسباب الكارثة.

لم تعترف إيران بخطيئتها جراء صحوة ضمير استغرقت ولادتها أيام وليال. جرى أن طهران تبلغت من عواصم دولية تقارير حاسمة في هذا الصدد ونُصحت بصفقة ما تتطلب الجلوس على كرسي الاعتراف. قرار ذلك الاعتراف اتخذه المرشد علي خامنئي. كان وزير الخارجية الإيراني قد تبلغ من المرشد قبل أيام قرارا آخر يقضي بأن يبلغ العالم بشكل رسمي أن رد إيران في عين الأسد وأربيل هو رد نهائي يقفل ملف اغتيال قاسم سليماني. غرّد ظريف بذلك مستجيبا. كان ذلك قبل أن يزهق "خطأ بشري" أرواح ركاب الطائرة الأوكرانية.

في معالم الصفقة التي لاحت أن الاعتراف الإيراني سيجنب طهران ذهاب الملف نحو مجلس الأمن الدولي. من شأن ذلك أن يفرض على إيران عقوبات دولية لن تستطيع دول كالصين وروسيا شهر الفيتو ضدها. من شأن ذلك أن يحول حياة نظام إيران إلى كابوس. ذلك أن عقوبات العالم ستضاف إلى تلك الأميركية التي تثقل كاهل البلد ومؤسساته، وذلك أن الأمر يذكر بالموقف الدولي الذي اتخذه مجلس الأمن ضد ليبيا إثر الكارثة التي حلت بالطائرة التي سقطت في لوكربي في اسكتلندا (21 ديسمبر 1988).

تعترف إيران بذنبها شأنها في ذلك شأن اختيار مذنب أن يعترف بذنبه مقابل صفقة قضائية. وعادة ما تعرض الصفقة أثمانا أقل قسوة من حكم المحكمة في ما إذا ثبت بالدليل ذنب المذنب. تود إيران من خلال هذا الاعتراف تجنب مجلس الأمن والعقوبات الدولية وإرضاء الدول المتضررة مباشرة وتلافي انقلاب مواقف بلدان ظلت معتدلة وسطية محايدة داخل صراع طهران وواشنطن. تريد إيران تجريد القضية من أي أبعاد سياسية تمثل هدية مجانية لدونالد ترامب المرشح والرئيس، وحصرها بإطار قانوني صرف يناقش مسألة التعويضات المالية لأهالي الضحايا.

خرج الناس في شوارع إيران ضد نظام يسهل فيه ارتكاب "خطأ بشري" وضد نظام يكذب على البلد والعالم. خرجوا بعد استنتجوا أن الحرس الثوري الذي يَعِدُ بإنهاء الوجود الأميركي في المنطقة قد أصيب بارتباك، وفق تعبير قائده اللواء حسين سلامي، وأن إيران التي تناكف الولايات المتحدة تحيك معها رداً مدبرا، وتتصرف بخوف من غضب قد ينزل بها إذا ما طرأ طارئ على مزاج الحاكم في البيت الأبيض. خرجوا من جديد بعد أن خبروا قوة القمع الذي مورس ضدهم قتلا وسجنا مقابل الوهن والارتباك والتصدع والخواء لنظامهم الحاكم، سواء في "ابتلاع" علقم الانقلاب الأميركي الذي أطاح بقائد الحرس الثوري العزيز على قلب الولي الفقيه، أو في مسرحية الرد الهزلية الهزيلة، أو في التلعثم السوقي في تبرير سقوط طائرة الموت الأوكرانية.

خرج الإيرانيون في إيران يكشفون كذب الإجماع الوطني الذي أراد نظام طهران إبرازه من خلال تنظيم جنازة عملاقة لسليماني ذهب أمين عام حزب الله في لبنان لمقارنتها بجنازة الخميني. وقد يعود الإيرانيون من جديد إلى بيوتهم بانتظار موجات اعتراض أخرى. بيد أن من ارتكب "الخطأ البشري" يتأمل بقلق مسار خطيئة لوكربي التي أسست تاريخيا لسقوط نظام ليبيا ولو بعد حين.