ذكريات على شواطئ القصيدة مع عبدالرحمن الأبنودي
لم أر شاعرا تُنصب له السرادقات في أمسيته الشعرية في العقود الأخيرة سوى عبدالرحمن الأبنودي (1938 – 2015)، الأمر الذي يدل على شعبيته الجارفة التي حققها بامتداد رحلته الشعرية التي خاض فيها تجارب عديدة من أهمها شعره الغنائي الذي تغنى به كبار المطربين في مصر وعلى رأسهم عبدالحليم حافظ وشادية ومحمد رشدي وفايزة أحمد ووردة الجزائرية ونجاة الصغيرة ومحمد منير وصباح في "ساعات ساعات". فضلا عن مساره في جمع السيرة الهلالية، وشعره الذي كان له نكهة خاصة من خلال أدائه المميز.
وكنت أقول دائما إن الاستمتاع بشعر الأبنودي يبدأ من خلال الاستماع إليه أولا، ثم قراءته بعد ذلك، وليس العكس. فقد قرأت شعره قبل أن التقيه، وخاصة ديوانه "جوابات حراجي القط" فكانت تقف أمامي بعض المفردات وشيء من الموسيقى، خاصة أنه كتب قصائده بالعامية المصرية الصعيدية. ولكن عندما استمعت إليه وهي يُلقيها أو يُنشدها ويُلونها بصوته القوي وأدائه المبهر، زاد استمتاعي بها، وبدأت أفك شفرات بعض المفردات التي لم أكن أعرف قراءتها في بعض دواوينه.
وقد كان الأبنودي من الذكاء بحيث إنه أصدر مع شعره تسجيلا بصوته لاقى قبولا واستحسانا جماهيريا، ويبدو أنه لاحظ أو تنبه إلى ما ذهبت إليه في الفقرة السابقة.
تعرفتُ على الأبنودي في الإسكندرية، عندما كان يحضر إلى قصر ثقافة الحرية، في السبعينيات والثمانينيات وكان دائم الذهاب إلى أهم زجالي الإسكندرية في ذلك الوقت وهو عم السيد عقل الذي يعمل حلاقا ويمتلك صالون حلاقة صغيرا في منطقة الحضرة القبلية.
وكان يناديني دائما بـ "فضل" (ليس أحمد ولا شبلول)، وكان لقائي الأخير معه عند افتتاح مركز الإسكندرية للإبداع الذي كان قصر ثقافة الحرية من قبل حيث لقاءاتنا الأولى معه. تقدمت للسلام عليه قبل حضور السيدة سوزان مبارك التي افتتحت المركز السكندري في 29 أكتوبر 2001، فتقدم خطوة الى الإمام قائلا: أهلا يا عمنا، ازيك يا فضل. فقلت له: أنت لسه فاكرني؟ ضحك ضحكته الجميلة مرددا: طبعا.
كان الأبنودي حكّاءً من الدرجة الأولى لذا لم استغرب أن تعلن زوجته أو أرملته الإعلامية المعروفة نهال كمال عن وجود رواية بقلم الأبنودي سوف تطبع قريبا. هل الأبنودي استشعر أننا نعيش عصر الرواية، وأن الرواية هي ديوان الحياة المعاصرة، فلجأ إليها في سنوات عمره الأخيرة؟ ترى ماذا سيقول في تلك الرواية، وهل هي رواية سيرة ذاتية يؤرخ فيها لنفسه وذاته في تشابكها مع الأرض والعيال والوطن؟ أم رواية حرة تتناول موضوعات بعيدة عن السير الذاتية؟
بالتأكيد كل محبي الأبنودي وعشاق شعره وفنه في شوق شديد لمعرفة الأبنودي روائيا، بعد أن عرفته شاعرا ومتحدثا لبقا ومقدم برامج تلفزيونية مثل برنامجه "الخال"، وجامعا للسيرة الهلالية.
أعود إلى طفولتي عندما كنت استمع يوميا إلى الأبنودي في "إذاعة الشعب" عندما كانت الإذاعة هي مصدر سعادتنا الأولى وبهجتنا ومعرفتنا الإعلامية، وكان معظم شعره في تلك الفترة يدور حول بناء السد العالي وجوابات حراجي القط وجوابات فاطنة عبدالغفار والأرض والعيال وأحمد اسماعين وبعد التحية والسلام، ووجوه على الشط (والمقصود بالشط هنا شط القنال، أو شط قناة السويس) وغيرها من الأعمال.
أعود أيضا إلى شبابي عندما استمعت إلى أغاني فيلم "أبي فوق الشجرة" (قبل عرض الفيلم بدور العرض السينمائي) وخاصة الأغنيتين العاطفيتين "الهوا هوايا" و"أحضان الحبايب" فأدركت أن من كتبهما بمفرداتهما الجديدة على القاموس الغنائي المصري في ذلك الوقت هو شاعر كبير بلاشك، لأكتشف بعد ذلك أنهما للأبنودي، ولأكتشف أيضا أنه إلى جانب الأغاني الشعبية التي أجاد الخال كتابتها هناك الأغاني العاطفية الرائعة التي توجت مسيرته في عالم الأغاني الجميلة.
وقد ظلت أغنية "الهوا هوايا" عالقة في وجداني حتى الآن، وقمت بتوظيفها في روايتي "رئيس التحرير" حيث تعرف السارد على سكرتيرة التحرير اللبنانية علياء الزغبي التي كانت تعيش أجواء فيلم "أبي فوق الشجرة" الذي صوِّر معظمه في الإسكندرية، وتردد أغنية "جانا الهوا" التي غنَّاها العندليب مع نادية لطفي في لبنان، أرد عليها بأغنية "الهوا هوايا" من الفيلم نفسه. تضحك علياء ضحكة لبنانية عالية، وتقول: يبدو أنك فنان.
إن الفنان الحقيقي هو الخال عبدالرحمن الأبنودي الذي أمتعنا وعشنا معه أجمل اللحظات من خلال أجمل الكلمات.