رؤية وأحلام محمود شيخاني تنشطر حين تلامس خيالات المتلقي

التشكيلي السوري: معالجة الموضوع أي موضوع كان، هي الأساس في الموقف من قضايا الحياة كبيرها وصغيرها وليس الموضوع بحد ذاته، فالماهيات موجودة على أرض الواقع أمام أعين الجميع لكن كيفية رؤيتها والتعبير عنها على أرض اللوحة هي الأهم.

حين إستمعت إلى محمود شيخاني (حمص 1953) وهو يؤكد مقولة متداولة كثيراً في الوسط الفني بعدم الرغبة في الإقتراب من الموضوعات الكبيرة التي قد يُساء إليها، كما أنها لن ترفع من شأن العمل الفني، فالإساءة ستتوزع على الطرفين (الموضوع واللوحة)، ويتابع بالقول إلى أن يضع ريشته مع أصابيعه كلها على الجرح حيث بؤرة النزف والخلق فيقول: "بأن معالجة الموضوع، أي موضوع كان، هي الأساس في الموقف من قضايا الحياة، كبيرها وصغيرها، وليس الموضوع بحد ذاته، فالماهيات موجودة على أرض الواقع أمام أعين الجميع، لكن كيفية رؤيتها والتعبير عنها على أرض اللوحة هي الأهم".

وأتفق معه تماماً، فالفنان هو الأسلوب لا الموضوع، طريقتك في التعبير هي أنت وليس ما تتحدث عنه، وشيخاني ونحن معه يمسك بأُذن كثيرة ويفركها كانت تجهل ذلك، وإن سقط أكثرهم في أول الطريق، أو في منتصفه على أكثر تقدير، وإن كانت سلسلة طويلة من المقالات كانت تطبل وتزمر لهم على صفحات الجرائد، وعلى القنوات التلفيزيونية، فإعادة الإعتبار للعمل المبدع يفرضه العمل ذاته وهذا ما يلخصه شيخاني بفهمه، ويزرع في دواخلنا رغبة لا تقاوم للإقتراب من محرابه وما يضج به من أعمال لا تكتمل إلا بقراءتها، القراءة التي ستكون أشبه بالجدار الرابع في المسرح، الجدار الأكثر فعالية وفاعلية، الأكثر نطقاً بالحركات المبدعة وتفاصيلها، بالأحاسيس التي لا يمكن ترجمتها، فكل الإشكاليات متعلقة بها، وكل الإكتشافات تحتاجها كبوصلة طريق في الإتجاهات كلها، ففي وسط موجة حالات الإنشطار التي تتعاظم في أيامنا هذه، والتي تتداخل إلى حد عدم القدرة على توثيقها أو قراءتها وفرزها، فالحابل ذهب بالنابل، أقول وسط هذه الحالة يأتي شيخاني مصراً على أن الإبداع الحقيقي لا زمان ولا مكان، وحده يتقاطع مع ذاته راسماً إياها بتوافق دقيق مع حكايته التي يسردها بألوانها وبإنتقالاتها التي تذكرنا بحكاية فنان حقيقي لا إيهام فيها ولا تطبيل، بحكاية تنتظر من يسمع سردها ويعيدها بلغته هو، حتى تخرج بسرودها الغنية والمتحركة، بل والجديدة في إشاراتها الدقيقة وفي علاقاتها الدقيقة والمهمة بالمحسوس منها وبالموحي أيضاً، فالمشهد المصور عنده ليست لقطات هامشية، ولا أشكال لونية تتجمع بفعلها المرئي على مساحاته، ولا هي إنتقالات بتقنية ما بين مقارباته، بل هي رؤاه وبعض أحلامه التي قد تنشطر في ملامساتها لخيالات القارىء / المتلقي الذي يتمكن العمل فيه بتأثير كبير قد يعتبر الأهم الذي يقف خلف العمل الفني وأسباب إنتاجه (أقصد أحد أهم الأسباب)، ولولا هذا التأثر لما كان للعمل المنجز تلك الأهمية كحامل لقيمة معرفية به يقف خارج الإختزال لمدلولاتها المباينة منها والمغايرة، ولما إقترب شيخاني من عوالم لها أفقها المغاير، وهنا تأتي أهمية موجزات تفاعلاته، وأهمية التركيز على توالدات غير هجينة، إجتزأت من أشياء بسيطة جداً، ولها أهميتها في تأسيس جماليات منجز شيخاني الإبداعي القائم على النهوض به وبإشكالياته من الداخل عبر التركيز على عوالمه الجوانية بمميزاتها السردية التي تخوله بإشغال مساحة من زمنها ومن تقطيعاتها المكانية .

محمود شيخاني وفي الكثير من إحالاته التي تؤكد مشروعية تحركها في المخيلة يستحضر تركيبات جديدة متوالدة من تجربته الطويلة التي تمتد لعقود، فهو من خريجي كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1977، ويشارك في المعارض العامة والتجمعات الفنية منذ عام 1972، يستحضر تركيبات ذات طابع فلسفي تقترب من الموروث حيناً ومن الوافد في حين آخر، فيتشكل خطابه من تقنيات وأساليب هي في غاية الخلط بين القديم والجديد (بين الموروث والوافد) وهذا ما يجعل إيلائه لمسألة الشكل جد مهمة، وهي تشف عن صوته الضمني، الصوت الذي سيجمع ما بين السعي إلى التمايز في بناء عالمه الخاص، وبين كيفية بناء ذلك العالم، لا بما يدعمها بمفاهيم قيمية تدفعه إلى المزيد من البحث فحسب بل بتماسك منطقها والمنحى الذي ينحو فيه، وهذا ما يجعله يترك أسئلته وإحتمالاتها مفتوحة ومطروحة لمزيد من التأويلات والقراءات التي لا حدود لها.

يمتلك شيخاني لغة إشارية بتفاصيل ملامحها وبما تحيط نفسها به، يملأ صفحاتها بمنجم ثر من سرد جميل تفيض برهافتها الفنية والإنسانية، وتتصل بزمن الوصف والسرد معاً وإن بتباين، ولو تجاوزنا جدلاً القطاف الذي سنجنيه ونحن نوقف لحظة السرد ولو برهة (إفتراضاً) سنجد أن الكثير من القيود الزمنية ستتحرر وإن نسبياً، إستضاءة لعمق فهمنا لها مع التصعيد في بهجتها وبهجة الحياة فيها، وكأنها توليفة لأنماط سردية مختلفة، بنكهة وخاصية شيخانية فيها الكشف متاح لجذور رؤيته التوليفية تلك، وهذه تفاصيل مستعادة بتداعياته بوصفها رصد وكشف لتجربته التي يتخللها طبائع مونولوجاتية بقيم تعبيرية وجمالية حيوية مؤثرة تمنحها (تجربته) بزوغاً من طراز خاص، ومكثف، فاكاً الحصار عن تلويناته بلغتها وتعبيريتها وصفائها، وبما يعمق دلالاتها الكثيرة، مستحلباً ذاكرته بنسغ الحياة الموغلة فيها، سالكاً الطرق التي تقوده إلى ملامسة الأبعاد، والتي ستدفع بمتلقيه إلى أقاصي تجربته الفنية ضمن مناخ فيه تبرز مقاطع موسيقية كلاسيكية محرضة له أولاً ولنا كمتلقين ثانياً، وكأنها قادمة من محرابه بطقوسه وزخارفه التي تشكل عالمه الخاص، عالم من ألوان بإيقاعات مختلفة، العازف فيه لون والمعزوفة لون والرقصة لون، والراقص لون، حركات لونية تتحول إلى رموز جمالية تبعاً لمتغيرات زمنية، تنتج عنها آلاف المكونات اللونية لكل منها دورها في تخصيب مشهده البصري.