رئيس الخصوصية اللبنانية

يجدر برئيس لبنان أن يجيد صناعة التاريخ لا إدارة اللعبة السياسية.
كل مكون لبناني يرهن محبته لبنان بأن يكون على قياسه لا في أن يكون هو على قياس لبنان
حين تصبح العقيدة أكبر من الوطن يمسي الوطن أصغر من الشعب، والشعب متعدد الأوطان

نتجه إلى انتخاب رئيس جديد لجمهورية مختلفون عليها. كنا نتخاصم على الرئيس ونتفق على الجمهورية، فصرنا اليوم متخاصمين على الاثنين. كل شعب موحد تجمعه قواسم مشتركة: الحرية والأخوة والمساواة جمعت فرنسا الجمهورية. الهوية الجامعة المرتبطة بالمبادئ السياسية الليبرالية والمساواة جمعت الولايات المتحدة الأميركية. الهوية اليهودية الصهيونية المتواصلة بأسطورة "أرض الميعاد" جمعت دولة إسرائيل. الحياد والثقافة والشعور بالانتماء إلى إمبراطورية تاريخية اندثرت جمعت دولة النمسا الجديدة. التعددية الحضارية في نظام فدرالي حيادي جمعت دولة سويسرا.

ماذا يجمع دولة لبنان؟ وماذا يجمع اللبنانيين؟ ما هي قواسمنا المشتركة؟ التقينا لتجمعنا القيم والحضارات والثقافات والمبادئ حول لبنان، لكن هناك من انساق وراء عقائد قومية ومشاريع دينية ومذهبية قضت على جميع محاولات تثبيت الفكرة اللبنانية الرائعة. اليوم، بات البعض يعتبر أن لا الدين يجمعنا ولا العقيدة ولا الأصل الإثني ولا الأعداء ولا الحلفاء ولا نمط الحياة ولا الآلهة ولا الأنبياء. وحين نتكلم العربية، اللغة التي تجمعنا، فلكي يشتم بعضنا البعض الآخر ويشكك في وطنيته.

في المئة سنة المنصرمة حاول المؤمنون بالمشروع اللبناني خلق ألف قاسم مشترك تاريخي وجغرافي وإنساني واقتصادي حقيقي ومجازي وأسطوري وشعري لتدعيم وحدة لبنان الكبير، فلم يوفقوا كفاية. راحوا في محاولتهم إلى حد وقف التغني بالقومية اللبنانية كعنصر تكويني، واحتضان مختلف القوميات المشرقية فلم يفلحوا أيضا. ثم طرحوا استبدال المفاهيم القومية بمفهوم دولة القانون والديمقراطية والميثاقية عله يحشد حوله جميع المكونات فلم يظفروا كذلك. وبلغوا في جهودهم أن عدلوا الدستور عسى الصلاحيات تستولد الوطنيات فلم تتحسن الحال، بل ساءت. بتعبير آخر، تم تحييد كل العقائد، ليبقى لبنان هو العقيدة، فتبين أن لبنان العقيدة هو العقدة، وهو المرفوض الأساسي. اجتاحت هذه العواصف الجسم اللبناني قبل أن تقوى مناعته فنالت من وحدته. والمجموعات الحضارية الوحدوية المتعددة الطوائف تظل، مع الأسف، أضعف من التيارات الـمشركة لأن موقفها السلمي ليس السلاح الملائم لمواجهة القوة المضادة.

معضلة الاختلاف بين اللبنانيين أن كل طرف يعتبر ما يمايزه عن الآخر هو من البديهيات لديه، والبديهيات ليست قابلة النقاش. بديهي أن أكون وحدويا. بديهي أن أكون قوميا عربيا. بديهي أن أكون فينيقيا. بديهي أن أكون في مشروع ولاية الفقيه. بديهي أن أحتفظ بالسلاح. بديهي أن ينزع السلاح، بديهي أن أطالب بالفدرالية، بديهي أن أكون حياديا، وبديهي أن أنحاز، إلخ... وكل بديهية تناقض الأخرى. وحين تصبح العقيدة أكبر من الوطن يمسي الوطن أصغر من الشعب، والشعب متعدد الأوطان.

الآباء والأجداد المؤسسون أدركوا النقاط التي فرقت اللبنانيين عبر التاريخ، لكنهم راهنوا على المستقبل ليعزز القواسم المشتركة وليضعف القواسم الخلافية على أساس أن الإنسان/المواطن يتقدم ولا يتراجع، ففوجئوا وفوجئنا بأن تطور المواطن في لبنان يعاكس تطوره في المجتمعات الأخرى. وما يؤلـم الوجدان الوطني أن الذين يرفضون النموذج اللبناني بديلا حضاريا أو دستوريا لم يقدم أي طرف منهم أفضل من دولة لبنان الكبير التي أردناها نموذجا ناجحا فجعلوها تجربة فاشلة.

المميزات التي أثبتت جدواها في صنع دولة لبنان ومجدها، والتي كانت مصدر فخر اللبنانيين أمام العالم ومصدر إعجاب العالم بلبنان، هي الأهداف المستهدفة اليوم عمدا وبامتياز. فالذين يريدون تغيير لبنان يعتبرونها عيوبا ومذلات وآفات ورذائل وآثاما تعيق بلوغ القرون الوسطى. يسعى هؤلاء إلى تسفيه التعددية الحضارية، وتعايش الأديان، والديمقراطية البرلمانية، والميثاق الوطني، والاقتصاد الحر، والقضاء الثقة، والنظام المصرفي، والحرية الفردية، والفن والثقافة، بقصد عزل لبنان عن الحضارة والعصر ووضعه في السجن الانفرادي، فلا يعود العالم يشعر بالحاجة إليه، ويحجم بالتالي عن الدفاع عن وجود لبنان في هذا الشرق.

ليست الخصوصية اللبنانية في أن يكون رئيس الجمهورية مارونيا، بل في أن تكون الجمهورية حاضنة جميع المميزات أعلاه. وإذا كان الميثاق الوطني عهد بالرئاسة إلى ماروني فليس للاعتراف بدور الموارنة في تأسيس دولة لبنان الحديثة فقط، بل لكي يعزز هذا الرئيس ـــــ الذي يفترض أن يكون شخصية استثنائية ــــ تلك المميزات الحضارية والديمقراطية التي تشكل الخصوصية اللبنانية. خلاف ذلك لا قيمة لرئيس ماروني في جمهورية فقدت حضارتها أو ألحقت بخصوصيات الأنظمة الاستبدادية والشمولية القريبة، فصارت لعنة على الموارنة بسبب رؤساء موارنة في سجل النفوس لا في سجل الشرف. من هنا لا ينجح أي رئيس ماروني في قيادة لبنان والحفاظ على توازناته وخصوصياته ما لم يكن نخبويا ومعمدا بـــ"ميرون" الثقافة والفكر. يجدر برئيس لبنان أن يجيد صناعة التاريخ لا إدارة اللعبة السياسية. كل مقومات الوجود اللبناني قائمة على فكر فلسفي. وخلافا لدول أخرى، دستور لبنان وميثاقه انبثقا من ذلك الفكر الفلسفي الذي صدر في مؤلفات نشرت قبل ولادة لبنان الكبير. والاجتهادات الدستورية والقانونية التي يبتدعها البعض اليوم هي خروج عن فلسفة الدستور وعن فلسفة الوجود اللبناني.

دور رئيس الجمهورية الجديد، بمنأى عن حدود صلاحياته، أن يسعى إلى إحياء القواسم المشتركة بين اللبنانيين إذا كان الأمر متاحا بعد. وأول تلك القواسم وثيقة "فعل إيمان" جديدة بلبنان تنطلق من مقطع الأغنية الرحبانية: "كيفما كنت بـحبك". حتى الآن كل مكون لبناني رهن محبته لبنان بأن يكون على قياسه لا في أن يكون هو على قياس لبنان. يخطئ كل مكون حين يعتبر أن دوره يتعزز حين يحصل على حصة دستورية أوسع في نظام لبنان، أو حين ينشئ جيشا مذهبيا خاصا به. الحقيقة أن أدوارنا الوطنية تتعزز فعليا حين يتسع دور لبنان. فما قيمة الأدوار والحصص في دولة ممزقة ومستضعفة إلا إذا كان الهدف بناء "مـجـمـعات" لبنانية تخلف الوطن الواحد.