رئيس جديد أم جمهورية جديدة؟

الـمتقدم إلى رئاسة الجمهورية هذه المرة ليس مرشحا لمنصب دستوري حصرا بقدر ما هو مرشح لـمهمة وطنية وتاريخية.
رئيس اذا سبح مع التيار لا يضل وإذا سبح ضده لا يغرق
لبنان بحاجة الى رئيس صاحب رؤية واضحة واستراتيجية وأداء براغماتي وإدراك للجيوبوليتك

في مخيلة كل مواطن يسكن رئيس جمهورية. يحلم به ويتوق إلى وصوله إلى الحكم. هكذا، تفرز المخيلة الشعبية اللبنانية أربعة ملايين رئيس جمهورية، فيما نفقد مرشحا للأربعة ملايين لبناني. السنوات عجاف. يستحق هذا الشعب المعذب رئيسا يلاقي أحلامه ويعيد إليه عزته.
كلما قرأ مواطن لبناني أو مواطنة قصة عظيم من التاريخ يتحسر على لبنان ويتمنى أن يحظى بمثله. لــم هذا الحـرم، بل هذا العقم؟ وحين يحلم اللبنانيون برئيس تسرح مخيلتهم وترسم بطلا يطل من قلب الأحداث، من مسيرة النضال، من طيف الشهداء، من نبض الشعب، ومن ثقافة العصر. وحين يحلم اللبنانيون برئيس تتراءى لهم شخصيته ولا يفكرون بصلاحياته. صلاحيات الرؤساء الكبار هي شخصيتهم. الهيبة تحدد الصلاحيات لا العكس. لكن اللبنانيين التائقين إلى حلم جديد يخلطون بين مفهومي الزعامة والرئاسة. في ضمير الشعوب الأسطوري، الرئيس هو شخصية تبدأ زعامتها بالرئاسة أو زعيم يتوج زعامته بالرئاسة. لكن الأول مفقود والثاني ممنوع. 
الأساطير تصنع شعبا لا دولة. الدولة يصنعها الرؤساء البناؤون الذين يتبنون أحلام الشعب وأساطيره ويترجمونها في السياسة والاقتصاد والإنماء والازدهار والعمران والحضارة والسلام. بعض رؤساء الجمهورية في لبنان عاشوا هموم الشعب فأسعدوه، وبعضهم الآخر قصفوا أحلامه وآماله فصدموه. 
ليس كل من تحلى بمواصفات رئيس جمهورية في الأزمنة العادية يصلح أن يكون رئيسا في هذه المرحلة الاستثنائية والمعقدة التي تستدعي شخصية قادرة على إنقاذ لبنان من السقوط النهائي وقيادته نحو هيكلية جديدة ورفعه إلى الذروة العالية، موقعه الطبيعي. صحيح أن هناك مواصفات ثابتة ملازمة أي رئيس جمهورية في أي دولة، لكن هناك أيضا مواصفات خاصة وموضعية تضاف إلى الثابتة في ظروف معينة ودول معينة. حكم الشعوب صار صعبا عموما، فكيف بحكم لبنان اليوم. الـمتقدم إلى رئاسة الجمهورية هذه المرة ليس مرشحا لمنصب دستوري حصرا بقدر ما هو مرشح لـمهمة وطنية وتاريخية. مهمة الرئيس أن يعيد لبنان إلى الجغرافيا والتاريخ والمستقبل. وكل كلمة من هذه الثلاثية تعني ما تعنيه. والبلاد لا تتحمل رئيسا من الحواضر أو رئيسا من الابتدائي.
إنقاذ لبنان يفرض رئيسا إصلاحيا صاحب رؤية واضحة وفكر استراتيجي وأداء براغماتي وإدراك للجيوبوليتك. يحتضن الشعب، يركز لبنان في محيطه العربي، ويتواصل مع مراكز القرار. إذا سبح مع التيار لا يضل وإذا سبح ضده لا يغرق. يتكيف مع الأوضاع من دون الخروج عن ثوابته وقسمه والدستور. يحاور حتى خط المنطق ويحسم لدى بدء الجدل العبثي. يعتصم بحبل التقوى الوطنية ولا يعتبر نفسه معصوما عن الخطأ. يبتدع أساليب عمل حديثة من وحي تطور المجتمعات وأنماط التواصل والمعلوماتية. يستبق التطورات ويشارك في صناعتها ويستوعب المتغيرات ويواكب التنفيذ. إنقاذ لبنان يفرض رئيسا يزرع روح العمل ويبعث قوة إيجابية في فريقه وفي المؤسسات وإدارات الدولة. يحسن اختيار مستشاريه ويحترمهم ويصغي إلى آرائهم كمستشارين لا كمنفذي أوامر. يجري تقييما دوريا لأدائه وسياسته وقراراته. ينتمي إلى ذاته ووطنه فلا ولاء إلا للبنان ولا موالاة إلا للشعب. إنقاذ لبنان يفرض رئيسا شجاعا لا يخضع لتهويل أو تحديات ويواجه من دون تردد وجبن. يقاوم الضغوط ويتحاشى التملق ويعوض عن ضعف صلاحياته بحكمته وترفعه.
هذه المواصفات تتخطى الانتماءات وتفرض نفسها على أي مرشحة أو مرشح مهما يكن موقعه السياسي. وإذا كان البعض يعتبرها تعجيزية، فليتصور رئيسا يتمتع بمواصفات معاكسة. إنها شرط إلزامي لا تعجيزي، ومن يستهولها يستخف بالمنصب. إن طالب سمة سفر إلى دولة تخضعه القنصليات لأسئلة أشد قسوة من هذه المواصفات، فكيف الحال لطالب رئاسة الجمهورية؟ هذه أبسط مستلزمات المرشح أو المرشحة لرئاسة الجمهورية في لبنان والعالم. ومن يتميز ببعضها يتمتع بجميعها، فالقيم تجلب القيم مثلما الرذيلة تجلب الرذائل. ومع ذلك تبقى هذه المواصفات نظرية ما لم يحدد كل مرشح جدي للرئاسة مهمته ودوره. حتى الآن نسمع بمرشحين -ولهم كل الاحترام-ــ ولا نسمع بمواقفهم. لا نعرف منهم سوى أسمائهم الثنائية أو الثلاثية وعلاقاتهم مع المحاور والدول. فهذا مرشح أميركا وفرنسا، وذاك مرشح سوريا وإيران، وذلك مرشح الدول الخليجية، إلخ.... أين مرشحو اللبنانيين؟
يريد الشعب أن يعرف خيارات كل متقدم إلى الرئاسة. فعدا رؤساء الأحزاب الذين يجاهرون برأيهم دوريا (جعجع، باسيل، الجميل وفرنجية)، لا يعرف الشعب الكثير عن بقية المرشحين. ما هو مفهومهم للقضية اللبنانية التاريخية؟ وما هو موقفهم من: النظام اللبناني واللامركزية والفدرالية والحياد والمؤتمر الدولي الخاص بلبنان؟ من مشروع حزب الله؟ من موضوعي اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين؟ من مستقبل العلاقات مع سوريا وإيران اللتين تتدخلان برحابة في الشؤون اللبنانية؟ من حدود المفاوضات الحدودية مع إسرائيل؟ من القرارات الأممية وبخاصة الـــ 1559؟ من إغلاق الحدود السائبة من كل الجهات ومن التحقيق في تفجير المرفأ؟ من خطط التعافي وأموال المودعين؟ إلخ.
لا يجوز للبنانيين أن يبتلوا برئيس يجهلون مواقفه الوطنية، إذ على أساس هذه القضايا يتقرر مصير لبنان ككيان ودولة ومجتمع. ويتضاعف إصرار اللبنانيين على ذلك إذا كان الرئيس الآتي توافقيا أو تسوويا. ما معنى التوافق؟ ما هو ثمنه؟ وما هي التنازلات التي قدمها المرشح التوافقي؟ ما هو مضمون التسوية وبنودها؟ إن رئيسا توافقيا لا يتحدى أحدا ليس يعني أن يكون بدون موقف ولون وطعم وضعيفا ومحدودب الكرامة، فيتجاهل كل القضايا الآنفة الذكر ويكمل ما ومن سبقه. نريد رئيسا يقطع مع السنوات الثلاثين الماضية وصولا إلى اليوم.
لا أدري ما إذا كان هذا المقال، بمواصفاته المثالية والواقعية، سيساعد في انتخاب رئيس الجمهورية أم سيؤدي إلى شغور رئاسي بسبب عدم تطابق المواصفات، فننتقل من انتخاب رئيس جديد إلى اختيار جمهورية جديدة؟