روسيا وملف اللاجئين: الغموض الملتبس!

غياب التفاصيل والوضوح عن المشروع الروسي يكشف أن الملف لا يعدو كونه فارغا يستدرج عروضا دولية يهمها الحل المتعلق باللاجئين السوريين.

أثناء المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أعلن الأخير أن المحادثات ركزت على الجوانب الإنسانية في الملف السوري، دون الإفصاح عن تفاصيل أخرى تطال الصراع في سوريا وموقف العاصمتين من مستقبل التسوية هناك. لم يأخذ المراقبون تصريحات بوتين على محمل الجد واعتبروا أنها أبجديات هدفها تمييع الجواب المتعلق بالسؤال الأساسي: "على ماذا اتفقتما في سوريا؟"
غير أن موسكو تحركت بعد سويعات على انتهاء قمة الزعيمين، في 16 مايو الماضي، وأعلنت عن مبادرة هدفها إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. أوفدت روسيا وفدا برئاسة مبعوث الرئيس بوتين، ألكسندر لافرينتييف، إلى بيروت وعمان لعرض المبادرة الروسية. كان الرئيس سعد الحريري قد أسرع لملاقاة المبادرة فور الإعلان عنها وقبل حضور الروس إلى العاصمة اللبنانية، فيما أطلقت عمان مواقف أكثر تأنٍ وتمهل وتريث في مقاربة ما حمله مبعوث موسكو
بدا أن الأرقام الروسية الخاصة باللاجئين المستهدفين بالعودة أقل بكثير من الأرقام التي يتم تداولها منذ سنوات. أمر كهذا أثار انتباه من يريد أن يعرف هوية هؤلاء اللاجئين وخرائط عودتهم وماهية المدن والقرى التي ينتمون إليها. وبدا أيضا أن موسكو، التي ربما تفاجأت بما أثارته المبادرة من اهتمام لدى الدول المعنية، لا تحمل إجابات دقيقة على أسئلة دقيقة حول الكيفية التي تنوي من خلالها موسكو سوْق السوريين النازحين من مآويهم في الخارج إلى منازلهم في الداخل.
تتحدث الفكرة الأولية عن مسار "مبدئي" يروم إعادة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم الأصلية لنفي أي سيناريوهات سابقة كانت تتحدث عن تغيير ديمغرافي يعيد إسكان السوريين وفق هويات تتناسب مع هوى النظام المنتصر ورعاته. والفكرة اللاحقة أن الأمر لن يكون آليا ولن يكون سهلا، وأن أية عودة ستمر من خلال إقامة "مراكز إيواء" مؤقتة قبل الإقامة النهائية في مناطقهم.
بمعنى أو بآخر تغري موسكو المجتمع الدولي بمشروع لإعادة تهجير المهجرين إلى داخل سوريا بما "يخلّص" دولا بعينها، لاسيما لبنان والأردن أولاً ثم دول الاتحاد الأوروبي لاحقا، من عبء اللجوء السوري الذي يضغط في الاقتصاد على لبنان والأردن ويضغط في السياسة على العواصم الأوروبية.
غير أن غياب التفاصيل والوضوح عن المشروع الروسي يكشف أن الملف لا يعدو كونه فارغا يستدرج عروضا دولية يهمها الحل المتعلق باللاجئين. لا تملك روسيا إمكانات تمويل ورشة بهذا الحجم، خصوصا أن عودة اللاجئين تمر حكما عبر التواصل مع النظام السوري، وأن تطبيع العلاقات الدولية مع دمشق من بوابة ملف اللاجئين سيعبد الطريق آليا لتطبيع أهم عنوانه إعادة الإعمار.
استمعت بيروت إلى وفد موسكو جيدا. لا تملك العاصمة اللبنانية بدائل كثيرة للتدلل في هذا الصدد. العالم بأسره نأى بنفسه عن الكارثة السورية وما تلقيه من حمم على الداخل اللبناني ولم تجد بيروت بديلا عما تحمله الجعب السورية من مقترحات وعروض تذهب بسوريا نحو شرفات متعددة في جوانبها العسكرية والسياسية والإنسانية والإعمارية.
غير أن لافرينتييف وجد في العاصمة اللبنانية نموذجا مما ستواجهه موسكو مع العواصم الأساسية الكبرى في العالم. رفض الحريري أي تطبيع سياسي مع نظام دمشق تحت عنوان إعادة اللاجئين متمسكا بقنوات التواصل الحالية الأمنية بين عاصمتي البلدين. وبدا أن "تفهم" الوفد الروسي لموقف رئيس الحكومة المكلف يعكس ضعف الملف الروسي حاليا على نحو لا يحتاج إلى ممارسة ضغوط أقوى على لبنان.
لكن موسكو تركت وراءها من خلال زيارة وفدها إلى بيروت سجالا داخليا يقسم الطبقة السياسية في لبنان حول طبيعة العلاقة المقبلة مع دمشق. وعلى هذا يتضح أن أحد أسس الحيثيات التي تعرقل تشكل الحكومة الجديدة يعود إلى الموقف من دمشق الذي تريده قوى 8 آذار المتحالفة مع حزب الله تطبيعياً مع دمشق، فيما تعاند قوى 14 آذار وتسعى لتأجيل هذا الاستحقاق حتى التوصل إلى التسوية السياسية الموعودة في سوريا. وقد أعاد السجال حول الأمر الحياة للتكتلين، بعد أن خيّل أن انتخاب ميشال عون رئيسا وإجراء انتخابات تشريعية في مايو مؤخرا قد أحالهما تاريخا قد انقضى.
والظاهر أن الوكالة التي انتزعها بوتين من نظيره الأميركي باراك أوباما في سبتمبر 2015 لحسم الموقف عسكريا في سوريا تتمدد لتطال المآلات السياسية على ما يتم استنتاجه من خلال مقاربة آستانا. فنقل الاجتماعات إلى سوتشي هدفه تأكيد المسار الروسي لما أريد له أن يلتئم داخل بلد ثالث (كازاخستان) سابقا. وتسعى موسكو إلى التعظيم من شأن آستانا في سوتشي ليكون بديلا ناجعا عن مقاربة جنيف. ولئن رفضت الولايات المتحدة المشاركة في الاجتماعات الأخيرة ولئن حضرها المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، فإن العواصم الكبرى ما زالت ترفض منح موسكو حصرية ورشتها السياسية في غياب ما يمكن أن يتّسق مع معايير ذلك في باريس ولندن كما في برلين وواشنطن.
يذكر البيان الصادر عن وزارة الخارجية الفرنسية في هذا الصدد أن لا رفع عقوبات أممية عن سوريا قبل التوصل إلى مرحلة انتقالية. يتلخص موقف العواصم الغربية في أن لا شروع في الحديث عن إعمار أو اعتراف بوضع سوريا النهائي قبل التوصل إلى التسوية السياسية، تلك التسوية التي تم تقزيمها حاليا وفق أجندة المبعوث الاممي إلى عنوانين: الدستور والانتخابات.
وعلى الرغم من أن موسكو تقدم إغراءات للعواصم الأوروبية بشأن اللاجئين السوريين تخفف من حالة التوتر الداخلي الذي ينفخ فضاءات التيارات الشعبوية، إلا أن الترسانة القانونية التي تحيط بوضع اللاجئين ستمنع مجاراة الهمّة الروسية في هذا الشأن دون ضمانات تتعلق بأمن العائدين ومستقبلهم، كما بطبيعة النظام السياسي الذي سيرعى عودة العائدين. على أن موسكو التي تدرك ذلك تعوّل على استدراج المتحفظين نحو ورشتها واستضافة عروض مكمّلة قد تكون مطلوبة من هذه العاصمة أو تلك للولوج إلى ممرات مؤتمرات التمويل الخاصة بسوريا.
وإذا ما كانت طبيعة السجال السياسي اللبناني تتيح جدلا يجاهر بالتطبيع مع دمشق وقيام بعض وزرائه بزيارتها، فإن الموقف الأردني يجاري المجتمع الدولي، بما في ذلك الروسي، حساسياته حول هذا الملف، خصوصا وأن عمان تعيش الأعراض الأخيرة لإعادة فتح معبر نصيب على الحدود السورية الأردنية. أصغت عمان للمبعوث الروسي، أبدت اهتماما حقيقيا، لكن وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي كرر في عمان ما يقال في عواصم غربية بعيدة، لا فتا إلى "أهمية إيجاد البيئة الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تضمن أمن السوريين واستقرارهم كضرورة لتشجيع اللاجئين على العودة".
واللافت أن الحراك الروسي أوحت به تصريحات بوتين في هلسنكي حول ما دار من نقاش مع ترامب حول الجوانب الإنسانية. بمعنى أن حراك موسكو أوحى للعالم أن ورشته هي وكالة أميركية جديدة منحت لموسكو لسبر أغوار مغامرة جديدة في سوريا. ورغم أن أمر هذه الوكالة غير مؤكد ولم تفصح عنه أيه مراجع أميركية، بيد أن الغموض المستمر لما جرى في هلسنكي، حتى بالنسبة للمؤسسات الأمنية والدستورية الأميركية، يطلق العنان لأي تكهنات يستظل بها بوتين لبيع بضاعته الجديدة في أسواق العالم.