'زيارة السيدة العجوز' تجمع التراجيديا وكوميديا في احدى روائع دورينمات

المسرحية أكثر رجال هذا الفن الناطقين بالألمانية موهبة تبدأ بمظاهر استعداد بلدة صغيرة فقيرة وراء الحدود الألمانية السويسرية لاستقبال سيدة ثرية طاعنة في السن.

يُعتبر فريدريش دورينمات أكثر رجال المسرح الناطقين بالألمانية موهبة، يكاد النقاد يجمعون على ذلك إجماعا. ومن خصائص موهبته أنها تمد جذورها إلى قاعدة الثقافة الإنسانية، فتسبر غورها وتقوم بجذعها وفروعها وأوراقها وسط الحاضر إلى آخر ما تطور إليه من علوم وضعية أبرزها الطبيعة النووية.

وهذه المسرحية "زيارة السيدة العجوز" التي ترجمها أستاذ الآداب الألمانية وقدم لها د.مصطفى ماهر وصدرت عن مؤسسة هنداوي، تشكل إحدى روائع دورينمات، فهي تراجيديا وكوميديا في آنٍ واحد، نوع أدبي مسرحي، ليس دورينمات أول من عالجه، ولكنَّه في معالجته له مُجدِّد فيه من ناحية أصوله الفلسفية.  تدور أحداثها في بلدة صغيرة اسمها جوللين، تقع في مكان ما غير مُحدد، وراء الحدود الألمانية السويسرية في الوقت الحاضر، وتبدأ بمظاهر استعداد البلدة لاستقبال السيدة الثرية الطاعنة في السن "كلير تساخاناسيان"، صاحبة الملايين، ابنة البلدة، وكان اسمها قبل أن تغادرها كلارا فيشر، نسبة إلى أبيها الذي كان يعمل بناء رقيق الحال.. تأتي الآن لتزور البلدة بعد غيبة دامت عشرات السنين، أموالها لا تُحصى، أزواجها كثيرون كثرة تجعلها تخلط بينهم خلطًا. أما زوجها الأول فصاحب آبار البترول الأرمني "تساخاناسيان" الذي ورثت عنه ثروته الطائلة، وورثت عنه كثيرا من الحيل وأفانين تحقيق المآرب. ثم لما تُوفي ظلت تتزوج وتُطلق، متنقلة بين أزواج يُمثِّلون المهن المختلفة، والطبقات المختلفة، والأعمار المختلفة، كلهم من ذوي الشهرة الواسعة، حتى انتهت عند بدء أحداث المسرحية إلى الزوج رقم "7".

أما جوللين فقد أصابها من الخراب المفاجئ ما أصاب كلارا من الثراء المفاجئ، انتهى حالها إلى بؤس لا يوصف، لا يجد الناس معه ما يأكلون أو يلبسون أو يعملون، كل المصانع أقفلت أبوابها، كل المؤسسات الاقتصادية تحطَّمت، فلمَّا سمع أهل البلدة بقدوم بنت بلدهم صاحبة المليارات لزيارة بلدهم؛ خفق قلبهم، ووضعوا أملهم كله في هبة تهبها إياهم، أو مساعدة تُساعدهم بها، فتخرجهم بها من الخراب إلى الرخاء. العمدة يقف عند محطة السكك الحديدية، يجمع أعيان البلدة، إن صح تسميتهم بهذا الاسم؛ فقد حلَّ بهم الفقر، ولم يعد مظهرهم الرث يوحي بمكانة رفيعة. ويتفاهمون والعمدة في إعداد استقبال مُؤثِّر لصاحبة الملايين عندما تطأ أرض مسقط رأسها، حتى يرق قلبها، فتدس يدها في كنزها وتغرف لهم منه غرفًا. واهتمام أهل البلدة مركَّز على البَدَّال "إل" الذي كان صديق كليري أيام صباها في البلدة، وكان الحب يربط بين قلبيهما. و"إل" رجل في الستين من عمره تقريبًا، يروي كيف كانت كلارا صبية رائعة الجمال، عنيفة الطبع، عاطفية الميول، ويتحسر على الأيام التي فرقت بينهما بعد حب عنيف. ولا يكاد يصل إلى تمام كلامه حتى تظهر كلير تساخاناسيان نازلة من القطار السريع الذي لم يحدث أن توقَّف في جوللين، تلك المحطة الصغيرة الخربة؛ فقد جذبت كلير تساخاناسيان، صاحبة الملايين، فرملة الطوارئ؛ حيث أرادت أن تنزل، وشرع ينزل وراءها مَن معها؛ زوجها وحاشيتها وأربعة من ماضِغِي اللادن كانوا من المجرمين العُتاة ينتظرون الموت في سجن سنج سنج، فأخرجتهم بمالها، وكلَّفتهم بحَمل هودجها الذي يحلو لها أن تتنقَّل فوقه، واثنان من الخِصْيَان أعميان، يفرحان فرح الأطفال الصغار، ويكرران الكلام آليًّا مرتين.

يضطرب أهل البلدة اضطرابًا لوصولها قبل الموعد الذي قدروه لوصولها، ثم يُجمِعون أمرهم قدر الاستطاعة، ويجتهدون في الترحيب بها أمام المحطة، وفي فندق "الرسول الذهبي"، حيث يُلقي العمدة خطبة مطولة يُضمِّنها تصويرًا مبالَغًا فيه، كله نفاق وتزلُّف، يستميل بها صاحبة الملايين، لكنها تقطع الكلام، وتعلن باختصار أنها مستعدة لتقديم مليار كامل هدية إلى البلدة بشرط أن تُمكن من الحصول على العدل، يعني بشرط أن يوجد بين القوم من يقتل التاجر "إل". ويُدهَش أهل البلدة؛ فقد كانت كلير تساخاناسيان طول الوقت منذ وصولها إلى البلدة برفقة "إل"، يتنقلان بين الأماكن التي شهدت حبهما، ويستحييان الماضي، وها هي ذي الآن تطالب برأسه، وعلة ذلك أن علاقتها بـ "إل" في عام 1910م، قبل أربعين سنة، أثمرت طفلة تنكَّر لها أبوها كل التنكر، وتخلَّى عن أمها، فأقامت ضده دعوى إثبات بنوة، فما كان من "إل" إلا أن أحضر شاهدين كاذبين مرتشيين أقسما أمام المحكمة أنهما كانا على علاقة بكلارا فيشر، فحكمت المحكمة برفض الدعوى. هذان الشاهدان هما الخصيان اللذان تمكَّنَتْ من الحصول عليهما بعد أن أَثْرت وازداد نفوذها، جلبت أحدهما من أستراليا والآخر من كندا، لم يفلتا منها بهربهما في كل طرف من أطراف الدنيا الواسعة. فلما استحوذت عليهما حرمتهما من البصر، وجردتهما من الرجولة وضمَّتْهما إلى حاشيتها. وأمَّا مدير أعمالها الذي شرح للحاضرين القضية تفصيلًا، فهو القاضي الذي رأس المحكمة التي نظرت دعوى البنوة عندما رفعتها كلارا ضد إل. أغرته المليونيرة بالمال فترك وظيفته وانضمَّ إلى حاشيتها يُدير أعمالها ويُتابع قضيتها.

فريدريش دورينمات
موهبته تمد جذورها إلى قاعدة الثقافة الإنسانية

رفض عمدة جوللين طلب المليونيرة فور استماعه إليه؛ متعللا بالتمسك بمُثُل ومقومات "الثقافة الغربية". لكن الحياة في جوللين بدأت تتغير تدريجيًّا؛ بدأ الناس يوسعون على أنفسهم ويشترون طعاما أجود، وشرابا أحسن، ويقتنون السيارات، ويجددون العمران. بدأ الناس يعيشون عيشة من أدخل في حسابه أنَّ ثروة هائلة في الطريق إليه، يذهبون إلى المتاجر فيشترون على الحساب، وأصحاب المتاجر يمنحونهم القروض كلَّما أرادوا. ويحس إل بالقلق؛ إنَّه لا يملك إلا أن يبيع للناس على الحساب هو أيضًا؛ فليس في مقدوره وحده أن يَسْبَح ضد التيار، ولكنَّه يتوقع أنَّ الأمور تتطوَّر ضده. أمَّا كلير تساخاناسيان فتظل في فندق "الرسول الذهبي" تعيش حياتها وتنتظر نتيجة حتمية، تنتظر محصلة القوى. تعيش حياتها فتترك الزوج رقم 7، وتتزوج الزوج رقم 8، وهو ممثل سينمائي شاب جميل، ثم لا تلبث أن تدعه لتتزوج التاسع، وهو عالِم حائز على جائزة نوبل.

وهنا يفلت النمر الأسود الذي أتت به معها، يفلت من قفصه وينطلق في البلدة، من مكان إلى مكان، فيحمل أهل البلدة أسلحتهم دفاعًا عن النفس. وما إن يرى "إل" الأسلحة في أيدي الناس حتى يتأكَّد أنَّ حياته في خطر لا شك فيه. فيُقرر الهجرة، ويحمل حقيبته إلى القطار، ولكنَّه لا يستطيع التقدم خطوة، لا لأن أحدا يمنعه، ولكن لأنه وقع في شباك خوفه، وأصبح أسير ذنبه الذي اقترفه ولا يستطيع الإفلات منه، فيشق بنفسه جو الانتظار السلمي الذي فرضته كلير تساخاناسيان، ويذهب فيضع نفسه تحت تصرف محكمة مواطنيه.

ووسط اجتماع أهل البلدة يقف العمدة فيضع مضمون الحادثة في شكل مُلفَّق للوصول إلى الهدف، فيرفع إل الذي انتهى معنويًّا إلى قمة التكريم مبلغًا الصحافة أنَّ الهبة التي منحتها المليونيرة للبلدة قد أتَّت بفضل توسط صديق صباها السيد إل. ويصطف المواطنون صفين، يسير بينهما إل حتى يبلغ منتهاهما فينطبقان عليه، ثم يعودان إلى الانفراج، فإذا إل ممد على الأرض جثة هامدة. فيقول الطبيب: سكتة قلبية. وتُفسِّر الصحافة: أَصَابَتْه من الفرح.

وهنا تأمر كلير تساخاناسيان النعش أن يؤتى به، النعش الذي أحضرته معها يوم حضورها، فيوضع به "إل"، وتُبْلغ المليونيرة الزوج رقم 9 بأنَّها لا حاجة بها إليه قائلة: لقد وجدت حبيبي. ويتلقى العمدة شيكا بمليار.

ويضيف ماهر في مقدمته للترجمة "أن "زيارة السيدة العجوز" كوميديا؛ لأنها تستخدم وسائل الكوميديا المختلفة وتُحسِن استخدامها: فالأسماء في غالبيتها منتقاة على نحو يبعث على الضحك، أسماء الحاشية تنتهي ﺑ "بي"؛ توبي، روبي، كوبي، لوبي … إلخ. والمصوِّر اسمه "تسيمت"، يعني "قرفة"، والمُحضَر اسمه "جلوتس"، يعني "بحلق"، والطبيب اسمه "نوسلين"، يعني "بندقية صغيرة"… إلى آخر هذه الأسماء. وهناك التصرفات المضحكة؛ فالبلدة وقد أصابها ما أصابها من الكساد، لم يَعُد بها سوى قبعة واحدة تصلح للاستقبالات الهامة؛ لهذا اتفق أعيان البلدة على استعمالها على التوالي، يلبسها الواحد منهم أثناء مثوله بين يدي صاحبة الملايين، وعندما يفرغ يتناولها الثاني سرًّا ويُمثِّل دوره. وربما كان أعظم التصرفات المضحكة بالقطعة كلها، خطبة العمدة التي يلقيها في فندق الرسول الذهبي للترحيب بكلير تساخاناسيان. وتتميز بعمق جذورها، فالمشاهِد يُطالع حيرة العمدة وأهل البلدة في بحثهم وراء تفصيلات يستعين بها العمدة في خطبته

ويؤكد أن أعمال دورينمات مثلها مثل الأعمال التي أنتجها أدب ما بعد الحرب العالمية الثانية، تتميز "بعدم وجود أبطال"، "بإنكار الأبطال" إنكارًا، ونقصد هنا الأبطال على مفهوم شيللر. دورينمات نفسه يقول في "مشاكل المسرح": العالم (وبالتالي المسرح الذي يُمثِّل العالم) أمامي شيء هائل فظيع، لغز في المصائب، وينبغي أن يُقبَل وألَّا يحدث أمامه تراجُع. العالم أضخم من الإنسان، وهو يتخذ بالضرورة سمات مخيفة، سمات ما كانت لتُصبح مخيفة لو أتت من نقطة خارجة عنه، ولكني لا أمتلك لا حق ولا قدرة الوقوف خارجه. والتعزي عن ذلك في الأدب أمر بالغ الرخص، والأقرب إلى الصدق أن تحتفظ بزاوية النظر الإنسانية: "هنا ابتعاد عن الأبطال بالمعنى الشيللري، وابتكار لمن يأخذون محلهم". وبديل البطل عند دورينمات وكثيرين غيره هو "الرجل الشجاع". ويرى دورينمات أن التطور من البطل إلى الرجل أو الإنسان الشجاع قد مر بمراحل. لغاية هيبل  كان مركز الدراما معقودًا لشخصية في حيرة ميتافيزيقية، لشخصية البطل. فلما جاء لويجي بيراندللو جعل البطل شفافا. وجاءت الحرب وانتهت الحرب، وانتهى معها من الثقافة الألمانية "بطل الحرب" وجرَّ في أذياله البطل عامة. في رومولوس الأكبر بطل من مستوى الأبطال الذين تتطلبهم أصول المسرح في عصر الباروك، ولكنَّه لا يستطيع أن يموت موت الأبطال، ولا يستطيع كذلك أن يُنظِّم مقاومة الدولة المتداعية، فينتهي أمره إلى الإحالة إلى المعاش. في "مكتوب" بطل آخر مُحال إلى المعاش، هو كنيبردوللينك بطل سلبي، وإن شئت فاعتبر المسرحية دراما لا أبطال؛ إذ إن شخصيات بوكلسون، وأسقف منستر المطرود وغيرهم، شخصيات أقوى من الناحية المسرحية وألمع من كنيبردوللينك ذاته.

ويوضح أن هناك محاولة لإقامة بطل تدور حوله الدراما، ولكنَّها محاولة تنتهي بإحالته إلى المعاش، بتَبَيُّن أنَّه ليس من هذا العالم. ويرتبط بتحوُّر شخصية البطل على هذا النحو، تحوُّر شكل الدراما إلى الكوميديا. هو تحوُّر سبق أن تنبأ بوقوعه الحتمي هجل والرومانتيكيون المبكرون. والجديد أنَّ الكوميديا الجديدة لها كرامة تسمح بمعالجة المواد الجادة دون إساءة إلى جديتها. بل إنَّ هذه الجدية تتأكَّد تأكدًا وسط الجو المتناقض، وأقوى تناقض في أعمال دورينمات تناقض هذا العالم و"الأشياء التي ليست من هذا العالم".

في كل مسرحيات دورينمات توتُّر بين العالم التقليدي وبين قُوًى خارجية تندفع فيه. عالم التقاليد يُمثِّله في مسرحية "مكتوب" أسقف منستر وحقه القديم في المدينة، ويُمثله في مسرحية "رومولوس الأكبر" رغبة البلاط القيصري في المقاومة، وفي "زيارة السيدة العجوز" الأخلاق البورجوازية المطَّاطة لأهل جوللين، وفي مسرحية "جاء الملاك إلى بابل" يُمثله حب المال والسلطان. أمَّا القوة التي تندفع في عالم التقاليد فيُمثِّلها في "رومولوس الأكبر" القيصر نفسه ونسيانه واجبه، وفي "زيارة السيدة العجوز" كلير تساخاناسيان في رحلة الانتقام، وفي "جاء الملاك إلى بابل" يُمثِّلها الملاك والحسناء كوروبي، التي يحملها بعد خروجها من يد الخالق مباشرة إلى دنيا البشر الفاسدة.