المشاعر والصداقة على المحك في 'الحب يستحق الانتظار'

ماري كريستين شارتييه تغوص في تعقيدات المشاعر البشرية، مستعرضة المنطقة الرمادية بين الصحبة والحب من خلال علاقة ماكس وكام، حيث تتصارع الرغبة والخوف والذكريات المؤلمة في رحلة نضج شخصي وعاطفي عميقة.

تستلهم الكاتبة الكندية "ماري كريستين شارتييه في روايتها "الحب يستحق الانتظار" صورة بديعة من الطبيعة لترسم لنا لوحة فنية دقيقة ومعبرة عن العلاقات الإنسانية المعقدة، وتحديدًا تلك المنطقة الرمادية الساحرة والمربكة التي تقع بين الصداقة الحميمة والحب الرومانسي. من خلال شخصيتي "ماكس" و "كام"، تقدم لنا الروائية رحلة استكشافية عميقة في ثنايا المشاعر الإنسانية، وتطرح أسئلة وجودية حول طبيعة الروابط التي تجمعنا بالآخرين والحدود الفاصلة بينها.

منذ الصفحات الأولى، تغمرنا الروائية في عالم صداقة متينة وقوية تجمع بين ماكس، الشاب الجذاب ذو الروح المرحة وإن كان يفتقر إلى المسؤولية، ويعاني من علاقة معقدة مع والديه، وكام الفتاة الذكية والحساسة التي تحمل في قلبها ندوبًا عاطفية من الماضي وتطمح إلى التعبير عن ذاتها من خلال الفن، وتطمح أن تكون فنانة. تبدو علاقتهما بمثابة ملاذ آمن لكليهما، نقطة ارتكاز ثابتة في بحر الحياة المضطرب. إلا أن هذا الثبات سرعان ما يبدأ في التزعزع مع نمو مشاعر خفية وغير معلنة. يجد ماكس نفسه أسير انجذاب عميق لكام، لكن الخوف من تدمير هذه الصداقة الثمينة يكبّل لسانه ويجعله يتراجع عن البوح بما يختلج في صدره. وعلى الجانب الآخر، تتردد كام، التي لطالما اعتبرت ماكس سندًا وصديقًا لا غنى عنه، في الاعتراف بمشاعر ربما بدأت تتشكل تجاهه، خشية من تكرار تجارب مؤلمة سابقة.

تكمن قوة الرواية الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون بترجمة زينة إدريس في قدرة الروائية على تصوير هذا التوتر الدقيق بين الرغبة في التقارب والخوف من المجهول. تستخدم الكاتبة أسلوب سرديًا متناوبًا بين وجهتي نظر ماكس وكام، مما يمنح القارئ نافذة مباشرة على أفكارهما ومخاوفهما المتضاربة. هذا التناوب لا يثري فهمنا للشخصيتين فحسب، بل يجعلنا نشعر بتعاطف عميق مع كليهما وهما يتصارعان مع مشاعرهما المتضاربة. الحوارات في الرواية تأتي طبيعية ونابضة بالحياة، تكشف عن جوانب خفية في شخصية كل منهما وتعكس بدقة ديناميكية العلاقة المتغيرة بينهما.

لا تقتصر الرواية على استكشاف العلاقة بين ماكس وكام فحسب، بل تتطرق أيضًا إلى مواضيع أعمق وأكثر شمولية. حيث تتناول ببراعة موضوع الخوف من الالتزام والانفتاح على الحب، وكيف يمكن لتجارب الماضي أن تلقي بظلالها على حاضرنا وتعيق قدرتنا على بناء علاقات صحية وناجحة. كما تبرز أهمية التواصل الصريح والصادق في أي علاقة، وكيف يمكن لسوء الفهم والصمت أن يؤديا إلى خلق مسافات غير ضرورية وتفاقم المشاعر السلبية. بالإضافة إلى ذلك، تقدم الرواية صورة مؤثرة لرحلة النضج الشخصي التي يخوضها كل من ماكس وكام وهما يتعلمان كيفية التعامل مع مشاعرهما ومواجهة مخاوفهما.

تنجح الروائية ببراعة في استخدام استعارة سمك التروتة القزحية ذلك السمك الذي تحيط به حراشف خضراء لماعة مما يكسبه لونًا كلون قوس قزح، وهنا يمكن اعتبار ألوان قوس قزح المتداخلة رمزًا للتعقيد والتداخل بين الصداقة والحب، ومن جانب آخر يمثل سمك التروتة القزحية رشاقة الحركة والتقلبات العاطفية التي تمر بها الشخصيات. أسلوب الكاتبة يتسم بالسلاسة والعذوبة، مع قدرة فائقة على الغوص في أعماق النفس البشرية واستخراج أدق التفاصيل والمشاعر.

إن الرواية تشكل قصة عن الحب والصداقة والخوف والأمل، قصة عن تلك اللحظات الحاسمة التي نجد فيها أنفسنا على مفترق طرق، مطالبين باتخاذ قرارات قد تغير مسار حياتنا إلى الأبد. إنها دعوة للتأمل في طبيعة العلاقات الإنسانية وقيمتها الحقيقية، وتذكير بأن أحيانًا، أجمل وأعمق الروابط هي تلك التي تتجاوز التصنيفات التقليدية وتزدهر في المنطقة الرمادية بين الصداقة والحب.

مقتطف من الرواية

كام

المرة الثانية التي كادت أن تتطور فيها علاقتنا أنا وماكس كانت ثاني أيام الميلاد الذي قضاه في منزلي في ألما. كان والداه قد ذهبا إلى جزر البهاما في ذلك العام (على ما أذكر). وأوضحت لماكس أنني لو كنت مكانه لقبلت بتحمل كثير من المضايقات، بما في ذلك والديه، لقاء فرصة اكتساب سمرة لبضعة أيام في بقعة للأثرياء. غير أنه أجاب إن كل سمرة العالم لا تستحق عناء سماع والده يشتكي طوال الأسبوع من المستوى المتوسط للبوفيه الفاخر وعدم ارتياحه في جناحهما الفخم في الفندق. بعد جدال لا طائل منه، دعوته إلى منزل أبي. سيكون أبي سعيدا، وكذلك سنكون أنا وماكس، أما بالنسبة إلى والديه، فلن يكونا سعيدين بالتأكيد، ولكنها مشكلتهما.

كان أبي وماكس على علاقة طيبة منذ الميلاد السابق، كما أصبحا صديقين على فايسبوك. وكن أشاهد أحيانا مقاطع فيدية على صفحتي عن الصيد في أعماق البحار قام بوسم بعضهما البعض عليها. لذلك لم تكن لدي هذه المرة أي مخاوف بشأن إحضار ماكس إلى منزلنا، بخلاف ربما استثنائي من محادثاتهما حول أسماك المياه العذبة.

مرت زيارته على خير ما يرام كما في العام السابق، لا بل وأفضل. فقد قام أبي بتعليم ماكس كيفية ركوب الزلاجة وفهمت وأنا أشاهدهما، أنه في سن معينة، لا يعود سانتا كلوز هو الذي يوقظ جانب الطفل لدى الرجل، بل فرصة ركوب آلة سريعة تصدر صوت فروم فروم.

في اليوم الأخير قبل عودتنا إلى المدينة، هبت عاصفة قوية، من تلك العواصف التي تجعلنا نتساءل عما إذا كنا سنضطر لركوب الزلاجة في صباح اليوم التالي للذهاب إلى المتجر. ثم انقطعت الكهرباء في وقت مبكر من المساء، وانتهى الأمر بتناول الطعام على ضوء الشموع والشرب حتى احمرت شفاهنا وخدودنا. ضحكت حتى البكاء مع أبي وماكس في منزل طفولتي، وكان قد مر وقت طويل منذ أن شعرت بهذه السعادة. في ساعة متأخرة من ذلك المساء، تركنا والدي بمفردنا، وذهب مترنحا بعض الشيء إلى غرفته. في الخارج كان الثلج يتساقط في حبات ضخمة بينما كان الجو في الداخل حارا (وأنا هنا لا أتحدث عن المنزل فقط).

تولى ماكس إشعال النار واهتم بذلك بجدية مثيرة للضحك.

علقت ساخرة: "لن نموت من البرد على أي حال".

"أعتقد أنه كان بإمكاني أن أعيش في الغابات"

"هل تدرك أنه في الغابة لا يمكنك الوصول إلى الخشب الجافوالصحف والمدفأة؟"

استخدم مجددا عصا النار لتحريك حطبة كبيرة وتثبيتها بالزاوية المناسبة، ثم عاد للجلوس بجواري على الوسائد.

قال لي "أتعلمين أنك متصلبة؟"

اعتدلت في جلستي قليلا على الوسائد.

"ماذا؟"

"لماذا تقاتلين بشدة طوال الوقت؟"

أكره عندما يفعل ذلك، أي عندما يجيب على سؤالي بسؤال آخر. غير أنه في تلك الليلة، فاجأني. إذ لم أكن أتوقع هذا التحول الجاد في المحادثة.

"ماذا تعني؟"

"أريد أن أعرف لماذا تحاولين دائما أن تكوني قاسية إلى هذا الحد، فأنا أعلم أنك أرق بكثير مما تتظاهرين به".

وضع إصبعا في المكان الذي ينبض فيه قلبي بشدة تحت سترتي وبشرتي، وضغط قليلا.

اعترفت قائلة "لا أدري".

كان بإمكاني الرد بسخرية وبنكتة أخرى، لكن طريقته في النظر إليّ سلبتني رغبتي في القتال.

"لا أعرف من أين أتى ذلك، لا أعرف حتى ما إذا كنت دائما على هذا النحو. أعتقد أن الأمر أصبح أسهل يوما ما..".

"أسهل".

فتح ذراعية، فارتميت على صدره. كان ذلك طبيعيا، تماما مثل أن يترك المرء نفسه ينجرف مع التيار بعد أن يكون قد حاول طويلا السباحة بالاتجاه المعاكس. شعرت بأصابعه تنزلق على عمودي الفقري. كان الأمر مثيرا للتوتر بعض الشيء، لكنني كنت مستعدة للاستمرار بالحديث طوال الليل إذا كان ذلك يمنعه من التوقف.

"أعتقد أنني لشدة ما تعرضت للأذى بعد أن أبديت ضعفي، قررت لا شعوريا أنه من الأسهل أن أكون قاسية. والأشخاص الوحيدون الذين سيرون جانبي الأكثر رقة هم أولئك الذين أثبتوا أنفسهم، والذين قرروا الوثوق بهم. لكن المشكلة أنني أنسى أحيانا أنه ثمة أناس لا أحتاج إلى حماية نفسي منهم".

"نعم".

حاولت تخمين الأشكال التي ترسمها أصابعه على ظهر، ولكن عبثا. فقد كانت مثل ماكس، غير متوقعة ومتبدلة. أغمضت عيني للحظة. كانت نار الموقد تعطر الغرفة، وتختلط برائحة ماكس القريب مني، بحيث تجعل رأسي يدور على نحو ممتع.

"إذا؟ أعرفك أكثر فصاحة".

"كنت أتساءل ما إذا كنت تنسين حقا أنك لست مضطرة لحماية نفسك، أم أنك تخشين أن يتخلي القريب الذي تثقين به على الرغم من كل شيء"

بقيت عاجزة عن الكلام أمام وضوح كلماته، فتابع ببطء:

"أتعلمين يا كام، بعض الأشخاص لا يرحلون، أنا، مثلا".

"من الجميل تصديق ذلك، ولكن من يعلم؟ فأمي لم تخطط للرحيل هي الأخرى".

تنهد، وازداد ضغط أصابعه.

"نعم هذا مؤكد. لكن ما دمت قادرا على ذلك فلن أرحل"

"لماذا؟"

"لأن الأمر مختلف معك"

التفت إليه، بحيث أصبحت رقبتي في وضعية غير مريحة، ولكنني أردت رؤيته بشكل أفضل. أردت في تلك اللحظة أن أرى ردة فععله بعد ما سأقوله.

"صحيح. أولم يكن الأمر كذلك دائما؟"

نظر إلى عينيّ كمن ينظر إلى شيء ثمين. وحتى لو بدوت سخيفة، لكن هذا ما شعرت به حقا.

"بلى"

عرفت أنه سيعانقني. فالمرء يعرف ذلك دائما قبل حدوثه، كما لو أن إشارة بيولوجية تحضّرنا لذلك. وأنا أتحدث هنا عن العناق الذي يعني شيئا، وليس عن ذلك العابر. أتحدث عن العناق الذي طال انتظاره.

وبالنسبة إلينا، فقد حان الوقت، لا بل منذزمن.

كانت تلك أيضا اللحظة التي اختارت فيها الكهرباء العودة في وميض كبير من الضوء الساطع دمر اللحظة تماما. ضحكنا، لأن الوضع كان مضحكا، ولم نعانق بعضنا. أما الجسد، فكان مستعدا، وكذلك كانت الروح.