سعيد ناشيد يستعير من كرة القدم للفلسفة القدرة على التموقع

الحياة لعبة، الخيار الباقي أن نجعلها لعبة مسلية إلى النهاية، هذا لا يسمى العبث بل فن الحياة.

استعارة اللعبة حاضرةُ في الحقل الفلسفي فقد وجد هيراقلطس في لعبة النرد صورةً تُحاكي حيثيات الحياة، كما كان سقراط مُتابعاً للمهرجانات الرياضية على اعتبار أنها عنصر من تكوين الفعاليات الاجتماعية وبدوره ناقش سارتر مع طلبته مفهوم الظاهراتية ضارباً باللعبة مثالاً لتوضيح هذا الاتجاه الفلسفي ورأي ألبير كامو الذي كان يلعبُ في فريق نادي مونبنسير حارساً للمرمي بأنَّ الحياة الواقعية مثل الكرة لاتأتي نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها.عن شكل التواصل بين اللعبة والفلسفة كان لنا حوار مع المفكر المغربي سعيد ناشيد وهو اسم بارز في الوسط الفكري نشر مؤلفات يتناول فيه تحديات حياتية من منطلق فلسفي  يشار إلى أنَّ كتابه "التداوي بالفسفة" قد لقى احتفاءً على نطاق واسع لدي المُتابعين وصدر له أخيراً "لماذا نعيش؟"

أجرى الحوار / كه يلان محمد

*ما المشترك بين اللعبة والفلسفة؟

تهتم الفلسفة بكل ما يهم الإنسان، وبكل ما يهتم به الإنسان. تهتم الفلسفة بكل ما يثير الناس ويسعدهم، بكل ما يثير عقولهم، حماسهم، وانفعالاتهم، بكل ما يمتعهم، يخيفهم، أو يحفزهم. تهتم الفلسفة إجمالا بالحياة الحقيقية للناس، حياة الناس كما هي، وليس كما نحلم بها، أو كما يتمثلها البعض.

لقد أصبحت كرة القدم اليوم جزءاً أساسيا من حياة الناس، بل تفوقت تجمعات كرة القدم على تجمعات أكبر المعابد والمزارات. اليوم لا يوجد أي سياسي أو رجل دين قادر على منافسة كرة القدم في مستوى الاستقطاب الجماهيري. والحال كذلك، ليس هناك كثير من المبالغة في أن يصنف البعض كرة القدم باعتبارها الديانة الأولى في القرن الواحد والعشرين.

كرة القدم هي الرياضة الأكثر إثارة للحماسة والفرح في كل أنحاء العالم، إلى درجة يصدق فيها القول المشهور: في عالم الرياضة هناك كرة القدم ثم سائر الرياضات الأخرى.

كرة القدم هي الحرب التي نحبها وننتظر موعدها بشغف كبير. ننتظر انتصار المعسكر الذي نسانده أو ننتمي إليه. نفرح في النهاية كما لو أننا كسبنا الحرب، ونحزن كما لو أننا خسرناها. مثل هذا الشغف يمثل بالتأكيد تفريغا إبداعيا لدوافع الحرب الكامنة في وجدان النوع البشري، والموروثة عن الأزمنة البدائية. كرة القدم حرب بالاستعارة. هنا بالذات يصبح السؤال الفلسفي ممكنا: لماذا نحب كرة القدم؟ لماذا هناك إجماع بشري على عشق كرة القدم؟ ما الذي تلبيه كرة القدم في مستوى غرائز النوع البشري؟ هنا يتسع مجال الاشتغال الفلسفي لتحليل كينونة الإنسان.

غير أن التفاصيل المشتركة بين الفلسفة وكرة القدم كثيرة أيضا، من ضمنها كما أرى، القدرة على التموقع الجيد. إن البحث الدائم عن الكرة قد لا يعني شيئا في غياب القدرة على التموقع الجيد. بل في غياب ذلك قد يصبح الجري الدائم وراء الكرة مجرد عبء وعبث. بالمثل تعلمنا الفلسفة أن الأهم ليس الجري الدائم وراء الأفكار بل القدرة على التموقع ضمن مساحة الراهن. كثيرون يقرأون بنهم، يبحثون بلا كلل، إلا أنهم يفتقدون إلى التموقع الجيد، بل كثيرا ما نراهم في حالة شرود بالنظر إلى القضايا الحقيقية للوعي الراهن.

*يرى هيغل بأنَّ الفن هو تمثيل حسي للفكر هل ينطبق فحوى هذا الكلام على اللعبة؟

أصبحت كرة القدم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، فنا راقيا بكل المقاييس. والواقع أن القواعد الجديدة التي وضعتها الفيفا قد ساهمت في تغليب المهارة الفنية على القوة البدنية، كما ساهمت في تسريع وتيرة الأداء، ما أضفى على كرة القدم طابعا فرجويا أكثر متعة. لكني لا أريد أن أستسلم لحماستي، لذلك أرى مقولة هيجل حول الفن تنطبق أكثر على الموسيقى والرسم والنحت، وربما بعض الرياضات الاستعراضية، لكنها لا تنطبق على مباريات يحكمها هاجس، من يسجل أكثر من الآخر؟ أساس الإبداع هو التفوق على الطبيعة بدل التركيز على تسجيل النقط. لكننا بكثير من التساهل قد نرى مبدأ هيجل ينطبق على افتتاحيات كأس العالم، حيث يكون التركيز على البعد الفني بهاجس الإبداع والإمتاع، خارج حسابات النصر والخسارة.

*إذا افترضنا بأن مشاهدة اللعبة مجالُ للتأمل إضافة إلى المتعة فما هي أبرز الأفكار التي يمكن التوصل إليها من خلال متابعة ما يقامُ في المستطيل الأخضر؟

كان سقراط قديما يحب الفرجة بكل أنواعها المعروفة وقتها، كان يحب المهرجانات والاحتفالات والمباريات الرياضية، كان يحب أن يرى الناس يستمتعون ويبتهجون، وكان ذلك كله يثير فيه الاستعداد للقاء الناس، ومحاورتهم بروح تجمع بين الدعابة والحس السليم.

يستمتع الفيلسوف بمختلف أنواع الفرجة التي يبتهج بها الناس، لكنه لا يكتفي بالتفرج بل يتأمل بالموازاة، ينتبه إلى التفاصيل التي قد لا يراها الناس، يتأمل في الأفعال وردود الأفعال، يستخلص الدروس والعبر، وفي النهاية يحاول أن يستثمر أجواء الفرح لكي يشجع الناس على التفكير النقدي. التفكير النقدي يحتاج إلى عقول مبتهجة. والحق يقال، لقد تعلمنا من ديمقريطس وسقراط وأبيقور وفولتير أن السخرية والضحك أدوات فعالة في محاربة الخرافة.

الفرح مطلب فلسفي أساسي، لأنه ينمي القدرات العقلية الأساسية: الحدس، الخيال، والإبداع.

الحارس المغربي بونو، صاحب الابتسامة الدائمة والمبهجة، والمصنف من بين أقوى حراس المرمى في العالم، ولعله الأقوى في صد ركلات الجزاء، هو نفسه من يؤكد بأن نقطة قوته في صد ركلات الجزاء تكمن في الحدس.

يحتاج الحدس إلى قلب مبتهج، هذا مما لا شك فيه. لذلك يفرح الفيلسوف بكل ما يثير الفرح في نفوس الناس، ويعلم بأن الفرح ضروري لصحة العقل والروح.

*من الملاحظ صعودُ أسماء وافدة مما يسمى بالهامش داخل معترك اللعبة كيف تقرأ هذا المشهد من منطلق فلسفي وأنثبرولوجي؟

لعلك تقصد بالهامش ضواحي المدن الغربية، حيث نشأ أبناء الجالية المغربية والمغاربية، وحيث نشأ الجيل الثالث، ثم الرابع. إذا كان الأمر كذلك فالواقع أن معضلة الاندماج في المجتمعات الغربية، بصرف النظر عن الأسباب والمسببات، فإنها قد تجعل من بلدان المنبع شريكا في الحل، طالما تتعلق المعضلة بمشاعر الاجتثاث التي تطغى على أبناء المهاجرين، ولا تزال تقلق ساسة الهجرة هناك.

أن يلعب أبناء المهاجرين المغاربة مع المنتخب الوطني المغربي، أن تتولد لديهم فجأة تلك الرغبة الجامحة في إسعاد المغاربة بالنصر والتأهل، فذلك مما قد يبلسم جروح الهوية المكانية.

وليس يخفى كيف اعتاد خطاب التطرف على استغلال أزمة الهوية المكانية لدى الجيلين الثالث والرابع، فيقترح على أبناء المهاجرين هوية افتراضية تتجاوب مع مشاعر الاجتثاث المكاني: أمة محمد! أمة لا إله إلا الله! راية الإسلام! إلخ. أن يشعر أبناء المهاجرين بهوية مكانية أصلية ومرجعية فهذه إحدى الحاجيات الأساسية للإنسان.

ليس مقلقا أن يُحمل العلم المغربي أو المصري أو حتى الفلسطيني في الضواحي الغربية، طالما يحيل إلى هوية مكانية محددة قد لا تحتاج سوى إلى إشباع رمزي، بل المقلق فعلا هو ألا يشعر المهاجر بأي هوية مكانية مرجعية. تلك هي العدمية المكانية المفضية إلى الإرهاب العالمي.

*غالباً ما تكون الأساطير والسرديات التاريخية لاتنفعُ في حسم المواجهات الرياضية ولاتفيدُ العراقة في المنافسات هل تعتقد بأنَّ هذا الملمح هو مايزيدُ من شعبية اللعبة والشغف بها؟

في كرة القدم لا شيء محسوم، لا الأقوياء يظلون أقوياء إلى الأبد، ولا الضعفاء يظلون ضعفاء إلى الأبد، قد تتغير الموازين في أي لحظة، قد تحدث مفاجآت غير متوقعة. هنا أصل الفرجة التي تطبع مباريات كرة القدم. في كرة القدم لا توجد أي ثانية مملة. طريقة احتساب الزمن بدل الضائع في القوانين الجديدة قد زاد من متعة الفرجة والتشويق. هذا كله جيد لتكثيف الفرجة، والتي هي من الحاجيات الروحية للإنسان.

* يقول سارتر بأن كل شيء يحدثُ بمنطق الصدفة وليس نتيجة للضرورة ألا تعتقد بأنَّ اللعبة مختبرُ لرؤية تمثلات هذا المقول الفلسفي؟

يقول ديمقريطس فيما يبدو كأنه مفارقة: كل شيء يحدث بالضرورة وبالصدفة.

أظن أن هذا الكلام الذي قاله فيلسوف عاش قبل سارتر بخمسة وعشرين قرنا من الزمن، أكثر دقة وبلاغة وحداثة أيضا.

الضرورة مثلا، هي أن ينجذب الرجل إلى المرأة، والعكس. لكن أن تتشكل أسر هنا او هناك فهنا الغلبة للصدفة. الجسيمات الموجبة والسالبة تتجاذب، تلك هي الضرورة، لكن أن تنشأ ذرات هنا أو هناك فهنا الغلبة للصدفة. بالعودة إلى كرة القدم فالضرورة هي الاندفاع إلى مرمى الخصم، والذي يحتاج إلى مهارات اللاعبين وخطة المدرب واحترام القواعد، لكن ترجمة ذلك إلى أهداف حقيقية يحتاج إلى مصادفات أيضا. الضرورة والصدفة تعملان جنبا إلى جنب في كل تفاصيل الحياة، بما في ذلك كرة القدم. دور الإدارة العقلانية ليس إلغاء الصدفة، فهذا غير ممكن، بل دورها هو الاستثمار الجيد للمصادفات الجيدة.

*هل توافق سيمون كريتشلي في رأيه بأنَّ الفلاسفة قد يستمعون إلى أفكار غيرهم لكن يتمسكون بآرائهم بينما في اللعبة توجدُ دائما إمكانية لتغير مواقفك وتبدي إعجاباً ببراعة الاستعراض الكروي لدى الفريق المنافس هل هذا يعنى أن الفلسفة أقل مرونة من اللعبة؟

كل الأفكار التي يتمسك بها الفلاسفة، رغم تنوعها واختلافها، فهي جميعها أفكار ضرورية لفهم الحياة في مختلف أبعادها. كل فكرة من أفكارهم تقدم زاوية معينة للفهم. الفلاسفة أنفسهم يدركون ذلك، ولذلك يتمسكون بأفكارهم التي توصلوا إليها في سياق تأمل طويل الأمد. دورنا نحن الذين نصغي إليهم ليس أن ننحاز إلى هذا الفيلسوف أو ذاك كما يفعل معظم دارسي الفلسفة المبتدئين، وهو خطأ قاتل، بل دورنا إعادة التركيب بنحو إبداعي. نحتاج إلى ما يسميه إدغار موران بالتفكير المركب.

كل الفلاسفة القدماء والمحدثين لا يزالون يتحاورون فيما بينهم، ودورنا أن نصغي إلى هذا الحوار العابر للعصور بحس مرهف وحدس ثاقب، ومن ثم نستلهم إمكانيات أفضل للفهم.

صحيح ما قاله بوثيئوس، كل فيلسوف يمسك بجزء من الحقيقة، وقد يظن بأنها الحقيقة. لذلك يكون دورنا أن نعيد تركيب الأجزاء، كلها أو بعضها، من أجل فهم أفضل للعالم والإنسان.

في كرة القدم ننحاز بسرعة قياسية، ننحاز أحيانا بحكم الانتماء، وأحيانا أخرى لمجرد الأهواء. بعد ذلك نكسب أو نخسر رهانا فرجويا خالصا. وفي الحالتين نستمتع بالفرجة.

هي مجرد لعبة لا تستحق كل هذا الشغف كما يدعي البعض، مجرد كرة منفوخة بالهواء يجري خلفها بشر يُفترض أنهم عاقلون، لعبة قد لا تطعم من يحتاجون إلى الخبز، هذا كله صحيح، لكن المؤكد أيضا أن العثور على حلول لمعضلات السياسة والاقتصاد والحياة ليس مهمة أعداء الفرح. يقال من باب الاستدلال المنغص، رغم فوز البرازيل بكأس العالم عدة مرات، إلا أن الفقر هناك لا يزال مستشريا، وهو دليل على أن كرة القدم لا تنفع في أي شيء. بالمثل يجب أن نقول، رقصة السامبا لا تنفع، وكرنفالات ريو دي جانيرو لا تنفع، والجيدو البرازيلي لا ينفع، إلخ. لكن هل ينفع أن ننكر بأن البرازيليين قد أنتجوا اليسار الأكثر حداثة، وأبدعوا المفاهيم التي ستلهم مختلف الناشطين عبر العالم بأسره: الديمقراطية التشاركية، الميزانية التشاركية، المنتدى الاجتماعي العالمي، إلخ. من أين لهم تلك القدرة إن كانت كرنفالات الفرح لا تنفع؟!

قديما، كان الفيلسوف الروماني كانوس جالسا في زنزانته يلعب الشطرنج مع أحد السجناء عندما قدم السجان ليقتاده إلى الإعدام، فقال لرفيقه: أنا أتفوق عليك الآن، فإياك أن تغشني بعد موتي!

هو يعلم أنها مجرد لعبة. لكنه يعلم أيضا بأن الحياة نفسها لعبة، وأن الخيار الباقي أن نجعلها لعبة مسلية، إلى النهاية.

هذا لا يسمى العبث، بل فن الحياة.