شباب يحترق بين نيران ارهاب الدواعش وارهاب قوارب الموت

ما حدث نهاية الاسبوع في جزيرة قرقنة ليس المأساة الاولى ولن يكون حتما الاخيرة في زمن باتت فيه سياسة الهروب الى المجهول خيار أمام جيل من الشباب تساوى أمامه الموت والعدم.

لم تعد لغة الارقام تعني شيئا أمام هول المشهد، أن يكون غريقا أو عشرة أو خمسين، فحجم الفاجعة التي صدمت مجددا التونسيين ما انفكت تؤكد تعقيدات المشهد الذي تعجز مختلف الاطراف الرسمية وغير الرسمية عن منع تكراره في بلد عاش على وقع ثورة أبهرت العالم ولكنها ثورة ستدفع بالشباب الذي كان في صدارة المشهد الى الاختيار بين الوباء أو الطاعون بمعنى أنه سيكون عليه اما الارتماء في أحضان الشبكات الارهابية أو اللهث وراء قوارب وسفن الموت هربا من واقعه السوداوي أمام تفاقم البطالة والتهميش وغياب البدائل. واقع سيتعين ربما تحمل تداعياته طويلا قبل أن تتحمل كل الاطراف الرسمية والشعبية مسؤولياتها بدءا بالمؤسسة التربوية والثقافية والاجتماعية مرورا بمؤسسات صنع القرار والبحث عن عدالة اجتماعية تقلص الفوارق وتؤسس للمساواة في الفرص بين الجميع. ما حدث في جزيرة قرقنة نهاية الاسبوع لم يكن الحادث الاول من نوعه ولن يكون حتما الاخير.

 المشهد مؤلم وقاتم وتعجز معه كل اللغات عن نقل حجم المأساة أمام لوعة الاهالي وهم يبحثون بين الجثث عن فلذات أكبادهم، وهو مؤلم أيضا أمام عجز السلطات التي تقف لتحيين قائمة الضحايا والمفقودين وتتوعد المسؤولين عن سفن الموت.

الحقيقة أنه وبرغم تواتر الماسي في السنوات الماضية يظل المشهد أصعب وأعقد من التعاطي معه كحدث يمكن أن يدخل اطار العادة والمألوف. ما حدث على السواحل التونسية بالامس تكرر أيضا على السواحل التركية ومن قبلها على السواحل الليبية والسورية واليونانية والارجح أن المآسي ستستمر في ظل استمرار الاسباب والدوافع التي تدفع بالمهاجرين الى ركوب الخط ولكن أيضا في ظل استمرار السياسات الاوروبية والخيارات المجحفة. والافظع هو الصمت المريب بشأن ظروف وملابسات ابحار نحو مائتي نفر دون أن يثير ذلك الشكوك أو الريبة والاخطر أن يختفي المسؤولون وينشغلوا بزيارة الاسواق وتدشين الفنادق الحلال وكأن قرقنة ليست جزءا من البلاد التي يديرون شؤونها.

المتوسط وبدل أن يكون جسرا للفرص الاستثمارية في مختلف المجالات بين الشمال والجنوب بات مقبرة للشباب الذي يدفع ثمن فشل النخب والحكام ولكن أيضا ثمن سياسة المعايير المزدوجة للقوى الكبرى والقوى الاستعمارية السابقة التي تريد لدول الجنوب ان تكون الشرطي الحارس لامنها ومصالحها في وجه الهجرة غيرالشرعية ومافيا السلاح وعصابات المخدرات.

من المسؤول عن نزيف سفن الموت وكيف يمكن الحد من الظاهرة أو تطويقها؟ الاكيد أنه لا أحد اليوم يملك اجابة مقنعة للقطع مع رحلات الموت المدفوع الاجر، بل لعل في صرخات الاباء وهم يواجهون الامر الجلل ما يدفع الى طرح السؤال ذاته كلما تعلق الامر بشبكات الارهاب التي تستقطب الشباب وتجعل منهم قنابل موقوتة قابلة للانفجار في كل حين في المجتمعات التي ينتمون لها. وفي ذلك ما يؤكد هذه الحقيقة وهي أن غول الهجرة غير الشرعية كغول الارهاب يخطف الشباب وحتى الاطفال في غفلة من ذويهم. اباء ملتاعون يرددون أن ابناءهم لم يكشفوا يوما عن رغبة في الهجرة وان بينهم من لا يشكو بطالة أو تهميشا. مرة أخرى يكون تجار البشر على الموعد ليستثمروا في مآسي فئة مهووسة بالرحيل لم تعد تجد في أوطانها ما يدفعها للثبات والتمسك بالجذور التي تنتمي لها للبحث عن بدائل أو  ليوقعوا عبر سفن الموت أطوار مأساة جديدة تضاف لسلسلة ماسي البحر السابقة ورحلات الموت اليومية المحملة بأحلام شباب اختار عن وعي أو عن غير وعي المقامرة للقطع مع واقعه والتطلع الى موقع تحت الشمس فانتهى به الامر الى قاع البحر. مشهد بات يتكرر على شواطئنا ليعمق جروح عائلات الضحايا ويفاقم النزيف والالام. واذا كان المتوسط مقبرة المهاجرين غير الشرعيين فان تونس بلد الثورة التي أبهرت العالم باتت المنصة لانطلاق قوافل المهاجرين المغادرين تحت جنح الظلام وبين هؤلاء شباب وأطفال ونساء حوامل. قد يكون لكل حلمه وقد يكون لكل هدفه عندما قرر ركوب البحر والاستعداد لكل الاحتمالات ذلك أن نسبة الوصول سالما الى الضفة الاخرى ليست اكبر من احتمال الغرق.

من الواضح أنه لا شيء اليوم يمكن أن يوقف النزيف الجديد الذي لا يقل خطورة عن الارهاب الاسود في أبشع مظاهره ولا شيء يمكن أن يمنع تكرار المأساة التي تحولت الى مآسٍ، وقبل حتى أن تندمل جراح عائلات من سبق من الضحايا الا ويتكرر السيناريو مع لوعة الاهالي أمام هول المشهد وانتشار الجثث التي لفظها البحر على الشاطئ فيما يظل أهالي المفقودين يتطلعون الى أمل عسى أن يكون أبناؤهم على قيد الحياة.

ما حدث نهاية الاسبوع في جزيرة قرقنة ليس المأساة الاولى ولن يكون حتما الاخيرة في زمن بات فيها سياسة الهروب الى المجهول خيار أمام جيل من الشباب تساوى أمامه الموت والعدم بعد أن فقد الثقة في محيطه ونخبه وبيئته. شباب غابت عنه البدائل فالقى بنفسه الى جحيم قوارب الموت على أمل الوصول الى الضفة الاخرى للمتوسط حيث يتوهم أنه سيجد الجنة في انتظاره وسيجد بدل فرصة العمل مات الفرص للكسب. من المتناقضات التي كشفتها ماسي سفن الموت أن التجنيس الذي كان عارا يلاحق اصحابه خلال مرحلة النضال من اجل الاستقلال اصبح حلم اجيال الاستقلال وهدفها الاول في الحياة سواء كان ثمن التجنيس رحلة الموت عبر سفن وقوارب الموت او الارتباط بأوروبيات في سن الام او الجدة أو غير ذلك من الاسباب.

شهادة احد الناجين الذي كان يردد أنه ميت بالحياة في مدينته المنسية من خارطة التنمية فقد اختار المقامرة عن طريق البحر فأما موت وأما حياة وفي ذلك ما يختزل تجربة الكثيرين أيضا الذين يتبنون نفس الموقف هروبا من الواقع.

وربما فات هؤلاء الشباب المغرر بهم أن اوروبا اليوم ليست أوروبا الامس وأن صعود اليمين المتطرف في أوروبا سيتجه الى استهداف هؤلاء حتى وان أدى الامر الى تعمد اغراق هذه السفن والتخلص من أصحابها في قاع البحر.

كيف يمكن اعادة الثقة في النفوس وكيف يمكن طي صفحة المآسي وكيف يمكن الرهان على شباب فاعل في تونس؟ الاكيد ان الحل الامني أساسي لضرب يد تجار البشر وسماسرة الاحلام الذين ينظمون رحلات الموت والأكيد أن هناك اخلالا امنيا كبيرا اذ كيف امكن لمائتي شخص الالتقاء وركوب البحر دون تسرب معلومة واحدة عنهم وربما ان الاوان للكشف عن كل الاطراف التي تتستر على هذه العصابات وتسمح لها بتكرار الماسي. ولكن الاكيد أيضا أن النخبة الحاكمة الغارقة في صراعاتها الانتخابية المبكرة لم ترتق بعد الى حجم المأساة ولم تستوعب بعد دروس المرحلة.