شتان بين بيريسترويكا بوتين وبيريسترويكا غورباتشوف
بين ميخائيل غورباتشوف وفلاديمير بوتين مجد ضائع وسعي لاستعادة ذلك المجد، والرجلان يتحركان في مساحة من التاريخ والجغرافيا اسمها الاتحاد السوفياتي.
آخر رئيس للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف الذي رحل عن عالمنا الثلاثاء، هو أكثر زعماء العالم إثارة للجدل، فهو الرجل الصالح الذي يقدره الغرب ومنحه جائزة نوبل للسلام عام 1990، وفي نفس الوقت هو الشرير الذي أرسل بالمجد السوفياتي إلى حتفه.
المحللون يعتبرون أن غورباتشوف هو من أنهى الحرب الباردة بانفتاحه على القوة العظمى الأخرى المنافسة للاتحاد السوفياتي.
ووضع غورباتشوف يده في يد الرئيس الأميركي رونالد ريغان الذي يحسب له الغرب أنه تمكن من ترويض غورباتشوف ودفعه لتفكيك بلاده وإضعاف النفوذ السوفياتي في شرق أوروبا دون قتال ولا حرب.
وعندما أعلن غورباتشوف عن سياسة إعادة الهيكلة أو البناء التي تعرف باسم بريسترويكا كان يرمى إلى القطع مع نظام سلطوي تحتكر فيه الدولة جميع السلطات وتفرض وصاية على أفراد الشعب.
ورافقت سياسة البريسترويكا سياسة انفتاحية تعرف باسم الغلاسنوست سعى غورباتشوف من خلالها لتنظيم حياة سياسية ديمقراطية تحاكي الديمقراطية الغربية وتقطع مع موروث لينين وستالين.
بوتين لا يرى في غورباتشوف ذلك البطل الذي أنهى حربا باردة وحرر الاقتصاد وضع تقاليد سياسية جديدة
ولا يرى الكثير من الروس وعلى رأسهم الرئيس الحالي فلاديمير بوتين أن غورباتشوف ذلك البطل الذي أنهى حربا باردة وحرر الاقتصاد وضع تقاليد سياسية جديدة.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي يوم 25 كانون الأول/ ديسمبر 1991، قال الرئيس الروسي السابق يلتسين، أول رئيس لروسيا الاتحادية، إن "المجتمع الروسي أصبح مريضا بعد الشيوعية أي لا يعرف كيف يتوجه مستقبلا".. تغيير كبير في القواعد والمفاهيم والممارسات لا تستطيع الشعوب تقبله بسهولة وسرعة".
بوتين ومن يوافقه الرأي يرى أن رياح البريسترويكا أضاعت امبراطورية عظمى، وقال سنة 2005 إن انهيار الاتحاد السوفياتي كان "خطأ جسيما".
لذلك تفيد عمليات الاستطلاع التي أجريت منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية أن بوتين يحظى بكثير من التأييد بين الروس الحالمين هم الآخرون باستعادة المجد السوفياتي.
بوتين يسعى اليوم إلى استعادة هيبة الماضي باسترجاع مناطق النفوذ السوفياتي وتمدد نحو شبه جزيرة القرم، وضم دونتسك ولوغانسك.
هي إعادة هيكلة أو بريسترويكا من وجهة نظر بوتين يسعى من خلالها لتجاوز أخطاء الحقبة السوفياتية خاصة في سنواتها الأخيرة مع غورباتشوف عندما كان الاتحاد السوفياتي يتحمل عبء الدول الشيوعية، خاصة تلك المنضوية تحت حلف وارسو، ويقدم الدعم لاقتصاداتها المنهكة بسبب الانغلاق والسياسات الاشتراكية الحمائية.
مع بريسترويكا بوتين، وقبل الكشف عن نواياه التوسعية التي بدأت تظهر منذ 2014، سلك سياسة تبادل المنافع مع دول أوروبا الشرقية دون أن يلعب دور الدولة الراعية كما كان يفعل الاتحاد السوفياتي، فكثّف مبادلاته التجارية مع تلك الدول وسعى لتقليص التأثير الصيني هناك التي اجتهدت كثيرا لتزعم العالم الشيوعي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
زمن غورباتشوف كان السوفيات يستوردون ثلث حاجياتهم من القمح، وزمن بوتين روسيا المصدّر الأول للقمح في العالم
ويرى متابعون أن بريسترويكا بوتين تجلت من خلال إعادة تكريس منظومة حكم الرجل الواحد التي لا تعترف بها الديمقراطيات الغربية، وخفض الإنفاق العسكري الذي كان يستهلك أكثر من 25 بالمئة من الناتج الداخلي الخام في عهد غورباتشوف ليتراجع إلى نسبة لا تتجاوز 5 بالمئة.
ومنذ وصوله للسلطة عام 2000 عمل بوتين على تحصين بلاده ضد هزات السوق المفاجئة، فلم يرتجّ الاقتصاد الروسي بفعل ما سماها غورباتشوف "الرازستوي" أو حقبة الركود الاقتصادي التي عمقتها انهيارات سوق النفط عام 1986 والتي تكررت مع الجمهورية الروسية الوليدة عام 1997، مما تسبب في إحداث صدمات هائلة للاقتصاد الروسي.
وأنشأ بوتين بعد فترة وجيزة من وصوله للسلطة صناديق الاستقرار المالي، فلم يتزعزع الاقتصاد الروسي بسبب رازستوي (ركود اقتصادي) عامي 2014 و2015، ولم يتأثر كثيرا برازستوي سنوات الجائحة الأخيرة.
ويقول خبراء الاقتصاد إن بريسترويكا غورباتشوف أوصلت الاتحاد إلى أن واحدا من كل ثلاثة أرغفة خبز في البلاد يُنتج باستخدام حبوب مستوردة، بينما جعلت بريسترويكا بوتين من روسيا اليوم المصدّر الأول للقمح في العالم.
ويقول محللون إن من لم يفهم أن بوتين يحمل مشروعا وحلما باستعادة مجد غابر لا يمكنه أن يفهم حربه اليوم في أوكرانيا وربما غدا في مناطق أخرى.
وهذا ما فهمه "،على ما يبدو، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي عندما قال منذ بدايات الهجوم الروسي إن بوتين لن يكتفي بأوكرانيا وسيتمدد في أنحاء أوروبا.
وحذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أكثر من مناسبة من أن "حرب بوتين تدق أبواب أوروبا بعنف".
وفي طريقه لاسترجاع المجد السوفياتي يتساءل مراقبون إلى أي مدى يمكن أن يحتفظ بوتين باستمرار الدعم الشعبي الداخلي مع تفاقم آثار العقوبات الاقتصادية القاسية التي سلطها الغرب عليه والتي ستتعاظم مع دخول قرار الحظر على النفط الروسي حيز التنفيذ.