شخصيات 'جاكراندا' تبحث وسط ركام الذاكرة الجماعية عن أمل مفقود
تونس - في تجربة محملة بالكثير من الرموز والدلالات، يقدم الثنائي عبدالحليم المسعودي ونزار السعيدي عرضا مسرحيا بعنوان "جاكراندا" من إنتاج المسرح الوطني الشاب التابع للمسرح الوطني التونسي، وفيه يبحث جيل ضائع في فضاء العتمة والانتظار عن مخرج.
واحتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة، السبت، العرض الأول للمسرحية التي تحمل عنوانا باللغة الإنكليزية "Call Center Tragedy" (تراجيديا مركز النداء)، وهي من تأليف ودراماتورجيا عبدالحليم المسعودي وإخراج وسينوغرافيا نزار السعيدي. ويأتي هذا التعاون الجديد ليشكل اللقاء الثاني بين المسعودي والسعيدي بعد عملهما المشترك في مسرحية "تائهون" سنة 2021.
وبحسب ما جاء في الورقة التقديمية لهذا العمل، فإن "جاكراندا" تحمل جمهورها إلى فضاء غريب ومألوف في آن واحد وهو مركز خدمات اتصال حيث تتقاطع مصائر شخصيات منهكة ربّما هم أشباح تجربة اجتماعية، أو ممثلون في تراجيديا قديمة تعاد من جديد، وهي شخصيات تقف عند مفترق طرق بين ماض منهار وحاضر مثقل بالتناقضات، شخصيات تسير بخطى متعثرة وسط ركام الذاكرة الجماعية تبحث عن أمل مفقود وسردية جديدة لم تكتب بعد. وتطرح المسرحية أسئلة وجودية حارقة في نهاية العشرية الثانية من الألفية الثانية، فهي وقفة داخل سؤال هل يمكن أن نكفّ عن اجترار الماضي، ونجرؤ على الحياة كخلق جديد؟
"جاكراندا" استجواب لذاكرة جماعية مأزومة، ولوعي فردي عاجز، لجيل وُلد في زمن الشك، وكبر في ظل الصمت… جيل لم يرث الوطن، بل المأزق.
وعلى مدى الساعتين تستعرض المسرحية شخصيات مرهقة وتائهة تحمل ما تبقى من أحلام مؤجلة وتدور في حلقة مفرغة من الانتظار. الأشخاص في المسرحية هم موظفون في مركز نداء لكنهم مرآة لجيل بأكمله "لم يرث الوطن بل المأزق"، كما جاء في الورقة التقديمية للعرض. يتنقلون بين ماض مشوّه وحاضر ضبابي دون أن يعثروا على سردية ينتمون إليها أو وطن يحتوي قلقهم.
وجاءت المسرحية الجديدة محمّلة بالرمزية وكثافة الدلالات ضمن إطار بصري يمزج بين العتمة والضوء وبين العبث والجدّ وبين الألم والسخرية. وقد ضمّ طاقم العمل مجموعة من الشباب من خريجي مدرسة الممثل هم أنيس كمون وثواب العيدودي وحلمي الخليفي ومريم التومي ومحمد عرفات القيزاني، إلى جانب الممثلين حمودة بن حسين وأصالة كواص وحسناء غنام وهم من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي بتونس.
ويحمل عنوان "جاكراندا" بعدا رمزيا مزدوجا، فجاكراندا هي شجرة بما تحمله من جمال خارجي وزهر بنفسجي آسر تخفي هشاشة داخلية، مما يجعلها استعارة دقيقة لوضع شخصيات المسرحية الذين يعكسون جيلا مكسورا من الداخل يُخفي تحت قشرة الكلمات المعلّبة والمواقف الجاهزة معاناة وجودية. أمّا العنوان بالإنكليزية "Call Center Tragedy"، فهو يضع المتلقّي مباشرة أمام فضاء رمزي جديد هو مركز النداء حيث تتقاطع الخطوط الهاتفية مع خطوط الحياة ويتحوّل العمل اليومي الرتيب إلى مرآة لأزمة الوعي الفردي والجماعي.
أما المستوى الفني الثاني الذي ارتكزت عليه المسرحية، فهو تميز النص بأسلوب درامي محكم قائم على ثلاثية درامية واضحة في كل مشهد من بداية وتطوّر ثم ذروة أو عقدة ونهاية. وقد اعتمد المخرج نزار السعيدي على هذه البنية لتوليد سردية متماسكة ومتداخلة تحافظ على إيقاع العرض وتمنع السقوط في الرتابة رغم امتداده على مدى ساعتين. وقد كانت النتيجة تجربة مسرحية غامرة مشحونة بإيقاع داخلي موظف بإحكام لفهم خبايا الشخصيات وتتبّع سيرورة الأحداث.
وكان التوظيف المكثف لمفردات مستمدة من معجم العنف والقسوة، أبرز العناصر المميزة للنص المسرحي والحوار الدائر بين الشخصيات، فالعنف في "جاكراندا" لم يقتصر على إبراز الصراع الدائر بين الشخصيات فحسب، وإنما يتحوّل إلى "أنا" داخلية ممزقة تصارع ذاتها وتفقد صلتها بالآخر. واعتمد المخرج على أسلوب تكرار مصطلحات القسوة ليعمّق الإحساس باللاجدوى والتيه والضياع مجسدا عبثية الواقع والاغتراب الوجودي الذي تعانيه الشخصيات.
وارتكز العرض على رموز بصرية ذات دلالات مكثّفة أبرزها علامة "Exit" (مخرج) التي تلونت بالأحمر أو الأخضر حسب السياق الدرامي للأحداث والشخصيات. وقد كان الأحمر رمزا للاستحالة والاختناق، أما الأخضر فبدا إشارة أمل هش أو حلّ وهمي. وقد تحوّل هذا الرمز "Exit" المستخدم عادة للدلالة على باب النجاة هنا إلى أداة للحصار والاختناق تسكن لاوعي المتفرج، بينما زادت الإضاءة القاتمة من الإحساس بالضيق مجسدة واقعا خانقا بلا أفق.
ومسرحية "جاكراندا" هي مرآة لواقع اجتماعي مأزوم وسؤال وجودي مفتوح حول إذا ما كان للفرد أو للمجموعة القدرة على تجاوز مخلفات الماضي المأساوي نحو الأمل المنشود أم أن "Exit" سيبقى مجرد ضوء خافت يحيل على نفق لا ينتهي.
ويتخذ العرض من مركز نداء يحمل اسم "Tanit Call Center" مسرحا لأحداثه. وقد تم توظيفه في سياق المسرحية لما يحمله من مقاصد رمزية خاصة عندما نأخذ في الاعتبار أن تانيت هي أكبر آلهة في الحضارة القرطاجية وكانت ترمز إلى الخصوبة والحماية والأمومة والقداسة وكانت تتمتع بمكانة محورية في المعتقدات الدينية القديمة. ولعلّ توظيف هذا الاسم هو سخرية من الزمن المعاصر حيث تُفرغ الرموز من محتواها الروحي لتستخدم كأسماء تجارية في إشارة ربما إلى أن الهوية صارت غلافا بلا معنى. ووفق وكالة تونس أفريقيا للأنباء، فإن هذا الطرح يتقاطع مع فكرة المسرحية، فتانيت لم تعد آلهة الحماية بل صارت شاهدة صامتة على انهيار المعنى داخل فضاء خانق اقتصاديا وثقافيا وسياسيا بعد ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010.
وهذه المفارقة هي قلب المشروع الفني للمسرحية حيث تتداخل الرموز القديمة مع مشاهد معاصرة لإنتاج خطاب نقدي حول الهوية المغتربة وحول الإنسان الذي لم يعد يرى في تاريخه مصدر قوة.
وهنا يقف المتفرّج أمام مشهد ساخر وموجع لمركز نداء يفترض به أن يكون نقطة تواصل لكنه يتحول إلى رمز لانقطاع المعنى. وهنا تلعب "Tanit Call Center" دور المجاز لوطن يتحوّل إلى شركة ولمقدّس يتقلص إلى علامة تجارية ولشعب يبحث عن مخرج للأزمة الخانقة داخل هذا المركز حيث تتقاطع المصائر وتتشظى الشخصيات بحثا عن مخرج وعن معنى.