مرافعة أخيرة ضد الإمبريالية في 'حول فلسطين'
يأتي كتاب "حول القضية الفلسطينية" في وقت استثنائي تتصدر فيه فلسطين مجددًا مشهد الوعي الإنساني، وسط دويّ القنابل في غزة، وانفجار الهبّات الشعبية في الجامعات الغربية، والجدل المتصاعد داخل مراكز القرار العالمي. في هذا السياق يطلّ الكاتب حسني عبدالرحيم بمؤلف يحمل ما هو أكثر من الرؤية: إنه موقف، وتحليل، واستعادة للسردية الأصلية، بعد أن تراكمت عليها طبقات من التبسيط والخطابات الدعائية.
يتألف الكتاب الصادر عن دار صفصافة من مجموعة من المقالات التحليلية المتسلسلة، التي صدرت في الأصل في مجلة "منارات الثقافية" التونسية، وتم تجميعها لتشكل متنًا فكريًا متماسكًا. ويفتتحه الكاتب بتأملات فلسفية وشعرية عن غزة، بوصفها "جغرافيا للموت والقيامة"، حيث يقف الإنسان الفلسطيني على خط النار باسم الوجود، ويقاوم بأجساد مبتورة وصيحات مكلومة، مشروعًا استعماريًا مدججًا بالتقنية والإبادة.
ينطلق الكتاب في تحليله ـ وفقا لعبد الرحيم ـ من فرضيتين أساسيتين، هما: أولًا: إن التناقضات الموضوعية المتراكمة خلال ثلاثة عقود على الأقل على صعيد المنطقة والعالم قد وصلت لمرحلة قد يصبح الانتقال الرجعي المعمم فيها حقيقة ثابتة، تستمر لأجيال تالية عليها أن تعاني الهوان. ثانيًا: صعود المنظومة الأمبرالية العالمية صعود لليمين المتطرف، بل الفاشي، في مراكز المتروبول في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، في ظل مخاوف كبرى من تعرض أوروبا لأزمة طاقة بعد تداعيات الحرب في أوكرانيا. والولايات المتحدة بعد أربع سنوات من حكم رئيس يميني، يؤيده تيار شعبوي متصاعد، وشبه أغلبية من نواب منتخبين في المجلسين.. كانت هناك محاولة للانقلاب ضد المؤسسات التمثيلية باحتلالها بالرعاع من اليمينيين بتأييد من نواب أمريكيين ورئيس خاسر للانتخابات ثم مدان جنائيًا! بينما تستمر المحاكم في استجواب رئيس سابق للولايات المتحدة في تهرب ضريبي وأشياء من هذا القبيل.. هذا في مشهد رسوخ الديموقراطية الأكثر في العالم، وليس في جمهورية وسطى في أفريقيا!.
يطرح الكاتب منذ المقدمة رؤية جوهرية بأن القضية الفلسطينية لا يمكن اختزالها في بُعد سياسي أو وطني ضيق، بل إنها تمثل جذرًا مكشوفًا لصراع عالمي بين قوى التحرر والإمبريالية. يقول "لم تكن القضية الفلسطينية مسألة محلية، بل كانت دومًا نقطة توتر بين المشاريع الكبرى؛ مشروع تحرير إنساني وعدالة تاريخية من جهة، ومشروع استيطاني مدعوم بإمبرياليات متتالية من جهة أخرى. إنها تلخّص قرنًا من التناقض بين ما يُراد للعالم أن يكونه، وما يمكن أن يُستعاد من ذاكرة المقاومة".
لا يتعامل الكتاب مع القضية الفلسطينية بوصفها مأساة قومية مجردة، بل باعتبارها عقدة مركزية في التاريخ المعاصر للعالم العربي، وكاشفة لحقيقة النظام الإمبريالي الدولي. يمزج المؤلف بين المنهج التحليلي الرصين واللغة الأدبية الرفيعة، مما يمنح الكتاب طابعًا مزدوجًا: تأمليًّا في الشكل، وسياسيًّا في الجوهر. فهو لا يكتب من موقع المؤرخ ولا من منصة الأيديولوجيا الجاهزة، بل من موقع المثقف النقدي الذي يرى في فلسطين مرآة لواقع مأزوم، ومجهرًا لفهم التحولات العميقة في العالم الحديث، بما فيها علاقة الشعوب بمفهوم الدولة، والسيادة، والتحرر.
يرى عبدالرحيم أن غزة لم تعد مجرد جزء من الجغرافيا الفلسطينية، بل تحوّلت إلى رمز وجودي للمقاومة، يُكثّف المعنى الإنساني للنضال، رغم كونها محاصَرة من جهات متعددة "غزة ليست فقط مدينة تقاتل، إنها الجمر تحت الرماد، الممر الذي لا يزال يقاوم الزمن. ومن سجنها المفتوح أعادت تعريف معنى أن تكون فلسطينيًا، بل إنسانيًا، في مواجهة جبروت الإمبريالية وتواطؤ النظام العربي. لقد قاومت غزة بالنيابة عن العالم، وربما دون أن يدري، وقف معها ضمير العالم كله".
ينزع الكاتب الغطاء الأخلاقي والديني عن الصهيونية، ويكشف عن طبيعتها السياسية العنصرية، ويتتبع مسارها من بداياتها في شرق أوروبا حتى تجسدها في الدولة الإسرائيلية، حيث يعيد تفكيك المشروع الصهيوني من جذوره الفكرية والاجتماعية، ويكشف عن تداخله مع النزعة الفاشية الأوروبية، وخصوصًا من خلال التيار الصهيوني العمالي والليكودي، مرورًا بتأثير بورخوف وشتيرن وبيغن وشامير. ويعرض أيضًا كيف تحولت الدولة الصهيونية إلى كيان توسعي يرتكز على منطق "الدولة العسكرية"، لا على مفهوم الدولة المدنية. ويقول "ليست الصهيونية مشروعًا دينيًا كما تزعم، بل مشروع استيطاني استعماري عنصري، نشأ في رحم الفاشية الأوروبية، واستفاد من اللاسامية القديمة ليصنع استعمارًا جديدًا في فلسطين. هكذا تحوّل ضحايا الهولوكوست إلى بناة هولوكوست آخر ضد شعب أعزل، كانوا هم بأنفسهم نموذجًا مقلوبًا لما فروا منه".
في واحد من أكثر الفصول أهمية، يحلل الكاتب جذور العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ويكشف أنها ليست علاقة مصالح آنية فقط، بل تقوم على تراكب ديني/ استعماري/ ثقافي مؤكدا أن "إسرائيل ليست فقط حليفًا لأمريكا، إنها صورتها في المرآة. وكما قامت أمريكا على إبادة السكان الأصليين باسم العهد الجديد، تقوم إسرائيل على تهجير الفلسطينيين تحت ستار الوعد الإلهي. هذه ليست صدفة تاريخية، بل تحالف روحي بين مشروعين من ذات الطينة: الاستيطان، الاستعلاء، والاستبدال".
لا يتوانى عبدالرحيم عن نقد القيادة الفلسطينية الرسمية، ويرى أن اتفاق أوسلو لم يكن إلا استسلامًا تدريجيًا، مكّن الاحتلال من تثبيت أقدامه اقتصاديًا وسياسيًا، كما ينتقد الانقسام "لقد أفرغت أوسلو النضال الفلسطيني من مضمونه، واستبدلت مشروع التحرير بمشروع إدارة شكلية تحت الاحتلال. فيما صار الانقسام الفلسطيني، بين سلطة تابعة في رام الله، ومقاومة محاصرة في غزة، عنوانًا للفشل الوطني، الذي لم يستطع أن يفرز قيادة موحدة تعيد طرح القضية في إطارها التحرري الكامل".
يتوقف الكاتب عند الدور الذي لعبته الثقافة الفلسطينية في بناء سردية مضادة للسردية الصهيونية، مشيدًا بجيل الأدباء والمفكرين الذين حملوا على عاتقهم مهمة تذكير العالم بفلسطين "رغم التهجير والشتات، لم يُلغ الفلسطيني حضوره، بل أعاد تشكيله في اللغة والمسرح والرواية والقصيدة. من غسان كنفاني إلى إدوارد سعيد، ومن فدوى طوقان إلى تميم البرغوثي، ثمة سردية مضادة، حادة، حية، تشق طريقها في الضمير العالمي، لا تطلب الشفقة بل تقدم المرافعة".
من أبرز الآراء التي يطرحها عبد الرحيم هو توصيفه لما يسميه "انبعاث الضمير العالمي"، وخاصة في الجامعات الغربية واليسار الجديد في أمريكا، حيث تعود القضية الفلسطينية إلى الواجهة "ليس من قبيل الصدفة أن تُحاصر إسرائيل في ساحات هارفارد وكولومبيا، وأن ترتفع أصوات اليهود التقدميين ضد الصهيونية. لقد بدأ الوعي يتشكل من جديد، لا لأن الأنظمة قررت، بل لأن الشعوب عادت لتفهم أن فلسطين ليست فقط ضحية، بل قضية وجودية للعالم كله".
يرى الكاتب أن القوى الإقليمية (مثل إيران وتركيا) تقف موقفًا انتهازيًا من القضية الفلسطينية، تدعمها ضمن سقف يخدم مصالحها في الإقليم، وليس بدافع مبدئي دائم "التحالف مع حماس ليس نابعًا من تضامن مبدئي، بل من توظيف سياسي لطموحات إقليمية. إيران وتركيا، رغم نبرتهما المرتفعة، لم توجّها يومًا معركة استراتيجية ضد إسرائيل. كلاهما يرغب في التفاوض مع الغرب، لا في قلب الطاولة".
ويلفت "رغم الخطابات الرنانة، لم تدخل إيران في أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل من أجل فلسطين، لكنها استفادت من خطاب العداء هذا لتوسيع نفوذها في المنطقة، من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان. وهكذا، أصبحت فلسطين جزءًا من استراتيجية الردع، لا من استراتيجية التحرير". " "إن الدعم الإيراني لحماس، خاصة بعد حصار غزة، كان بديلًا عن غياب الدعم العربي، لكنه بقي مشروطًا سياسيًا ومحدودًا عسكريًا، ويرتبط في كثير من الأحيان بأهداف خارجية تتعلق بموازين القوى الإقليمية أكثر مما تتعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني نفسه".
ويقول بالنسبة لتركيا "تركيا حالة أكثر تعقيدًا، فهي بلد له علاقات تجارية وعسكرية مع إسرائيل، فهو عضو في حلف الأطلنطي، والتسليح هو نفسه وكذلك التدريب وصيانة الطائرات، ولها حدود بحرية مع إسرائيل، ومصالح في اقتسام غاز شرق المتوسط. والحكم الحالي في تركيا ذو توجه قومي/ إسلامي، ومن ثم فهو ذو صلات وتعاطف مع حركة حماس، وكذلك تخوفات من امتداد النفوذ الإسرائيلي الإقليمي الذي ربما يكون خطرًا على وجوده في شمال سوريا، وربما على محاولتها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي بدأ ينهار، ورغم التوترات السياسية الظاهرة، فإن العلاقات التركية الإسرائيلية لم تنقطع، بل استمرت بشكل غير معلن في مجالات عدة، ما يعني أن تركيا تمارس ازدواجية الموقف: تصعّد خطابها أمام الجماهير الإسلامية، وتُبقي قنوات التعاون مفتوحة مع تل أبيب. إن الموقف التركي من غزة وفلسطين جزء من استراتيجيتها لقيادة العالم الإسلامي السني، وليس نابعًا من التزام عقائدي بالقضية، ولذلك لم تتخذ تركيا أي خطوات حقيقية لكسر الحصار أو تغيير موازين القوى. وفي النهاية، فإن تركيا مثل إيران، توظف الورقة الفلسطينية في إطار طموحاتها الإقليمية والتنافس مع السعودية ومصر، أكثر مما تقدم دعمًا حقيقيًا لتحرير الأرض أو إقامة دولة فلسطينية مستقلة".
وفيما يتعلق بالموقف الصيني والروسي الصين وروسيا فيرى عبد الرحيم أن الدولتين لا تشكلان بديلًا حقيقيًا للتحالف الأمريكي/الإسرائيلي. ودعمهما للقضية الفلسطينية لفظي، سطحي، ومحكوم بالمصالح. ولا يمكن التعويل عليهما إلا في إطار الضغط الدبلوماسي العام، لا كمصدر للتحرير أو كبح العدوان. ويوضح "من جهة روسيا السوفيتية، فإنها كانت المورد الرئيسي للمهاجرين قبل 1948، وبعد حرب حزيران كانت متعاونة مع أنظمة ثبت في الحروب المختلفة عدم قدرتها على إدارة مواجهة مركبة، وهي تفتقد للتمثيل الشعبي. أما الصين، فلا يشغلها الشرق الأوسط إلا من ناحية توريد السلع الرخيصة وتنظيم اتفاقيات تجارية مع شركاء في المنطقة، وبينهم إسرائيل (11 مليار دولار حجم التبادل التجاري). كما أنها ـ الصين ـ لا تنظر لفلسطين كقضية تحرر وطني، بل كملف في توازنات الطاقة والاقتصاد. صراعها مع أمريكا يتمركز في تايوان وجنوب شرق آسيا، وليس في غزة أو الضفة.
وفي ختام الكتاب، لا يقدم المؤلف نبوءة يقينية، بل يطرح احتمالين كبيرين، منفتحين على الصراع "إما أن نعيش في ظل شرق أوسط تقوده إسرائيل كإمبريالية صغرى متحالفة مع المال الخليجي والقوة الأمريكية، أو نعايش انبعاثًا تحرريًا عربيًا جديدًا، تقوده الشعوب، وتكون فلسطين في قلبه. الخيار ليس قدريًا، بل هو رهن بما سنفعله نحن الآن".