شرق أوسط جديد لن يكون أميركيا

الهيمنة الإسرائيلية على القرار الأميركي الخاص بالشرق الأوسط صارت أكثر من واضحة.

أخطر ما في حرب غزة أن تكون مناسبة لتغول إسرائيل على حساب الدول العربية المحيطة بها بحيث تكون القوة الوحيدة التي يكون في إمكانها إعادة رسم الخرائط بما ينسجم مع المشروع الصهيوني القديم "من النيل إلى الفرات"، وهو ما يمكن اعتباره بالنسبة لإسرائيل تحولا نحو الأمام وليس عودة إلى الخلف في ظل انهيار وحدة الصف الفلسطيني. وليس الموقف الأميركي المساند بأسلوب أعمى لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل بعيدا عن التحايل على مفهوم السلام العربي الإسرائيلي بطريقة تجعل منه طعاما مسموما. ففي وقت سابق رعت الولايات المتحدة مساعي التطبيع وحاولت أن تدفع بالمملكة العربية السعودية إلى الانزلاق إليه من غير شروط واقعية مسبقة وهي اليوم لا تظهر احتراما لتلك المساعي ولا للدول التي دفعت بها في اتجاه التطبيع. الولايات المتحدة تتصرف بطريقة معادية للعرب وليس للفلسطينيين وحدهم. وما يجري الآن على الأرض يمكن أن يُترجم في المستقبل القريب على شكل إملاءات ستكون الدول العربية التي تقاوم التطبيع ضحيتها وبالأخص المملكة العربية السعودية.

لا غموض في الموقف الأميركي. ففي الوقت الذي تعلن فيه الولايات المتحدة عن انحيازها المطلق لحرب الإبادة الإسرائيلي فإنها لا تلتفت إلى ما تشكله تلك الحرب من خطر على أمن حلفائها العرب وبالأخص مصر التي إذا سُمح لها بتخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني فغزة فإن ذلك لن يتم إلا عن طريق استقبالها لموجات من المهجرين من غزة وهو ما ترفضه. اما ما تعرضه مصر من حلول لحرب غزة فلا تنظر إليه الولايات المتحدة بطريقة جادة لكي لا تعترف أنها لا تملك القدرة على فرض قرار إيقاف الحرب على حكومة نتنياهو. فبعد أن تمكنت هستيريا الانتقام من إسرائيل، حكومة ومجتمعا لا يملك المدافعون عن أمن الدولة العبرية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة والمانيا إلا الإنصات ووضع خدماتهم على الطاولة. حتى يصل الشك بالمرء إلى درجة تؤدي به إلى تصديق الفكرة التي تقول إن اللوبيات الصهيونية هي التي تُدير الشأن السياسي في الولايات المتحدة وسواها من الدول الخاضعة للمزاج الإسرائيلي. وليست سلطة القرار في منأى عن ذلك. خرافة "اليهود يحكمون العالم" قابلة للتصديق.    

قد يحدث تبدل في المشهد السياسي العالمي في مرحلة ما بعد غزة. "ما بعد غزة" مصطلح شاع استعماله، وليس المقصود به كما أظن المرحلة التي تكون فيها غزة نظيفة من حماس على سبيل المثال. ولو كان الأمر كذلك لقيل "ما بعد حماس". لقد وضعت إسرائيل حماس خلفها. لم يعد الخوف من حماس هو الهاجس الذي يستثير الرغبة في الاستمرار في الحرب، بل يكمن ذلك الهاجس في حاجة إسرائيل إلى أن الانتقال من لغز الدولة الخفية إلى عنوان الدولة التي لا ترعى مصالح لغرب في المنطقة وتدافع عنها بقدر ما تحكم تلك المصالح وتستفيد منها في فتح الأبواب المغلقة أمامها. وإذا كان ما حدث يوم 7 أكتوبر الماضي قد شكل ضربة لخيلاء الأجهزة الأمنية في إسرائيل فإن تغلغل تلك الأجهزة في مختلف دوائر الحكم العالمية أمر مشهود به. أحيانا تجتاز تلك الأجهزة الخطوط الحمراء فتعلن الولايات المتحدة أو سواها من دول الحاضنة الإسرائيلية بحياء عن القبض على جاسوس إسرائيلي. لكن ذلك لا ينطوي على توجيه اللوم إلى إسرائيل. 

ربما كانت حركة حماس قد شكلت عقبة أمام إسرائيل هي في طريقها إلى إزالتها. ربما لا يزال حزب الله في لبنان كذلك وهو أمر رهين بالموقف الإيراني. غير أن جارة العرب التي لا تود لهم الخير هي ليست كذلك. فإضافة إلى أن إسرائيل قد سبق لها وقد لقنت إيران دروسا في التفوق العسكري فإن سباق التسلح الذي يستهلك الجزء الأكبر من قدرات إيران الإقتصادية أمر لا يربك إسرائيل ولا يستفزها فهي تدرك أن إيران لا تقف في طريقها وهي تسعى إلى أن تكون لها السيادة المطلقة على شرق أوسط جديد.

تلك فكرة سبق وأن طرحتها الولايات المتحدة وأنجزت جزءا منها حين حطمت الدولة الوطنية في العراق ومزقت سوريا وسلمت ليبيا للفوضى بعد أن أسقطت نظام القذافي ومكنت الحوثيين في انقلابهم في اليمن والآن جاء الدور لإسرائيل لتكتمل صورة الشرق الأوسط الجديد الذي لن يقوم إلا تحت الهيمنة الإسرائيلية.