شغف الأب بصحراء سبها لا يمهد طريق الرئاسة للابن


من أجل أن يكسب سيف الإسلام القذافي الليبيين عليه أن يقدم نفسه ليبيا، أكثر من كونه قذافيَا أو سرتاويا أو صحراويا.
ليس بمقدور سيف الإسلام القذافي إزاحة التاريخ المتصدع من ذاكرة الليبيين

أهملت في قراءة المؤشرات بشأن ترشح سيف الإسلام القذافي لانتخابات الرئاسة الليبية، اختيار مدينة سبها الصحراوية في أقصى الجنوب الليبي. فخيار تقديم أوراقه في طرابلس ليس واقعيا وفق مشهد مراكز السلطة الموزعة في ليبيا، وبنغازي لم تعد مضمونة بعد للقذافي الابن.

أما سبها فالخيار التاريخي للأب القتيل، وحتى عندما أراد أن يكسر الحصار الجوي الذي فرض عليه في أيامه الأخيرة، فقد كان يريد الاتجاه إلى سبها، مثل الابن الآخر الساعدي عندما اختار الهروب عن طريق سبها قبل أن يعاد تسليمه إلى طرابلس في صفقة مع النيجر.

ما بين الزنتان المدينة الصغيرة في الغرب الليبي التي احتفظت بسيف الإسلام القذافي أكثر من عقد، وسبها، جغرافيا سياسية شاسعة، لكن الأولى لن تكون مصدرا لرسم المستقبل السياسي لليبيا، بقدر الولاية الصحراوية الشاسعة، التي يصفها بعض الليبيين بطريق الجحيم. ذلك التعبير الجغرافي لسبها لكونها مركز الجنوب الصحراوي الليبي الجاف، وفرصة النمو فيها أقل بكثير من المدن الساحلية حيث يفضل أبناء سبها الهجرة الداخلية إلى بنغازي ومصراتة وطرابلس بحثا عن فرص أفضل. لكن عندما أراد سيف الإسلام التنافس على ما تركه الأب القتيل من حكم، اختار الصحراء مكان شغف الأب ومركزه في صناعة الفلسفة السياسية الجوفاء، لتقديم أوراق ترشحه للانتخابات الرئاسية.

يدين القذافي لسبها بأنها احتوته في بداية حياته الدراسية فلم تكن ثمة مدارس في صحراء سرت مسقط رأسه، وعندما أراد إكمال دراسته الإعدادية بعدها لم يجد غير مصراتة ليدرس في ثانويتها آنذاك. لكن ذلك لم يغير من نظرة القذافي الأب إلى مصراتة بأنها بيئة طاردة له، ومصدر إزعاج سياسي مستمر يصعب عليه ترويضها.

فهل يعول سيف الإسلام على أن يجد من الأصوات الانتخابية في سبها وامتدادها الصحراوي حتى سرت، فرصة ما تؤهله لرئاسة ليبيا؟

من يؤمنون بالمستقبل الوطني لليبيا، بغض النظر عن نظرتهم الشخصية لسيف الإسلام، يرون أنه سيكرر نفس الخطأ التاريخي الذي ارتكبه الأب، وتعلمه السياسيون اللاحقون “تكرار الأخطاء نوع من الصواب يفند مقولة هيردوت التاريخية عن الجديد الذي يأتي من ليبيا” عندما اعتبروا أن التعويل على جغرافيا القبيلة بوصفها طريقا مستمرا صوب الإمساك بالسلطة والحفاظ عليها وليس الوطن الليبي.

فمن أجل أن يكسب سيف الإسلام القذافي الليبيين عليه أن يقدم نفسه ليبيّا، أكثر من كونه قذافيَا أو سرتاويا أو صحراويا. فالوطنية طريق مثالي للدولة على صعوبته والعقبات التقسيمية التي توضع فيه بشكل دائم.

كان سيف الإسلام القذافي يعرض على الليبيين مشروعه الوطني خصوصا بعد إكمال غلق ملف لوكربي، وعرض مدونته الوطنية آنذاك واستقطب نخبا ليبية في الداخل معارضة لحكم والده. وكان ينظر إليه بداية الألفية بأنه الحل لمستقبل البلاد بعد الخروج من سطوة الأب.

قاد مبادرات لحل أزمة لوكربي في عام 2003، وتحرير الممرضات البلغاريات في عام 2007، وتحدث في مناسبات أكاديمية في لندن وباريس وروما وقدم نفسه للغرب على أنه مصلح.

لقد سمح الوالد المتحجر آنذاك للابن بأن يعرض أفكاره ويعد الليبيين بنوع من السياسة لم يسمح لغيره التحدث فيها، من دون تجاوز الخطوط الحمر، وما أكثرها. كان سيف الإسلام يحاول إقناع الأب بأن مستقبل ليبيا ليس ما كان يهتف به طوال العقود الماضية عن العروبة وخطاب جمال عبدالناصر الفارغ الذي لم يجلب شيئا إلى الليبيين. هناك ما ينتظر ليبيا باتجاه إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، فسمح له بالتحرك بحدود ما. ووجد ذلك التغيير الذي كان يعد به سيف الإسلام القذافي الليبيين، مثلما أراد إثبات ذلك للغرب بأن ليبيا بلد مختلف اليوم، صدى مناسبا. فحظي بترحيب غربي بوصفه المصلح لمستقبل البلاد التي بقيت لعقود مارقة وشاذة.

كالعادة، ومثل كل التغيرات الموعودة في ليبيا، لم ينجح سيف الإسلام بإحداث أي تغيير، الأصح لم يسمح له القذافي الأب. فانسحبت تدريجيا النخب الليبية من مشروع سيف الإسلام السياسي، بعد أن عولت عليه كي يكون نوعا من الأمل من داخل الأسرة الحاكمة.

كان حينها القذافي الأب يراقب التغريد السياسي لسيف الإسلام خارج ما رسمه لولديه الآخرين معتصم والساعدي بوصفهما الذراع القمعية.

واكتشفنا ذلك بوضوح عندما ثار أبناء الشرق على النظام ظهر القذافي، وقال غدا سيذهب سيف الإسلام إلى بنغازي ليتفاوض مع الليبيين هناك، وقد يحقق بعض مطالبهم، وفي واحدة من الخسائر الشكلية التي قدمها، قال القذافي الذي كان يتحسس طريق الهزيمة أمامه، إنه لا يختلف مع كثير من المطالب حتى أنه على استعداد لتغيير العالم الليبي

فشل سيف الإسلام في إقناع الليبيين من بنغازي حتى مصراتة، واختار أن يدافع عن نفسه منفردا، كي لا يكون ضمن قائمة القتلى من الأسرة، بينما كان المعتصم كما عهده الأب مقاتلا شرسا بقي يحمي الوالد وقتل قبله. والساعدي أجبن من أن يغير التعريف الذي التصق به من قبل الليبيين، فهرب صوب النيجر قبل أن يعاد مقيدا إلى طرابلس.

بالنسبة إلى سيف الإسلام القذافي، مازال مشروعه في التغيير الذي عرضه بداية الألفية قائما كخطط مكتوبة، لكن لا قيمة سياسية له في ليبيا المختلفة اليوم بعد عقد من الخراب والتقسيم.

صحيح أن هناك من الليبيين من ينظر لسيف الإسلام بوصفه حلا حيال السياسيين والأحزاب التقسيمية التي فشلت في جمع ليبيا كوطن جامع، لكنه أيضا محمل بإرث قمعي لأسرته كتم أنفاس الليبيين على مدار عقود، فلا هو قادر على إزاحة التاريخ المتصدع من ذاكرة الليبيين، وسيكون معبرا عن الانتهازية السياسية عندما يخضع للخطاب التقسيمي السائد في ليبيا اليوم.

يمكن أن نقرأ المشهد الانتخابي الرئاسي بطريقة أولية عندما يتعلق بسيف الإسلام القذافي، فأصواته أقل مما يمكن توقعها في طرابلس وغير موجودة في مصراتة وضئيلة في بنغازي، فما بقي له غير الجنوب من سرت حتى سبها وبعض المدن التي مازالت تدين بالولاء للقذافية السياسية مثل بني وليد حيث تمثل المناكفة التاريخية مع مصراتة من دون اعتبار لحقيقة الجغرافيا. وأقل منها في مدن الغرب الليبي.

لكن وفق هذه القراءة التقسيمية فإن سيف الإسلام سيقع في نفس الفخ المستمر منذ سقوط نظام والده. حيث أبعد ما يمكن العثور عليه هو المشروع الوطني الجامع لليبيين.

لا يمتلك سيف الإسلام لا الإمكانيات ولا الحاضنة للمضي بمثل هذا المشروع الوطني، فيما التاريخ لا يقف في صفه. فليس بمقدوره مسح أو تغيير ثلاثة عقود من التاريخ أو مغادرة الجغرافيا. والعالم لم يقبل به لحد الآن، بينما الدول التي تريد إعادة تأهيله من جديد سبق وأن فشلت في تقديم من كان لم يحسب على نظام والده. فكيف بابن القذافي؟

مع أن سيف الإسلام القذافي ليس حلا لليبيا المقسمة، مثله مثل الدبيبة وحفتر وباشاغا وزيدان والنايض، إلا أننا وفق كل المؤشرات على الأرض لا نجد ونحن نراقب ليبيا اليوم، أن ثمة أملا في الاتفاق على الانتخابات في أصلها، وإذا جرت فمن سيقبل بنتائجها!