شوقي ينتصر للرجز

البحر القائم على تفعيلة 'مُسْتَفْعِلُنْ' يسمح بظهور تموُّجات نغمية يعتمد عليها الشاعر في تكوين زوايا ارتكاز صوتية دلالية تضيف ثروة في الأنغام وغِنى في الألحان وخصوبة في الفواصل والقوافي وإضاءات ثرية في إنتاج بلاغة النص، إضافة إلى كونه أكثر بحور الشعر استخدامًا في قصيدة الطفل.

يقوم بحر الرجز على تفعيلة "مُسْتَفْعِلُنْ" التي تتكرر ثلاث مرات في الشطر الأول، وثلاثًا في الشطر الثاني من النسق البيتي، وتتكون من: حركة سكون (سبب خفيف) + حركة سكون (سبب خفيف) + حركتين فسكون (وتد مجموع)، فيكون على هذا النحو:

مستفعلن مستفعلن مستفعلن ** مستفعلن مستفعلن مستفعلن

ويدخل عليها زحاف الخبن (حذف الثاني الساكن) فتصبح "مُتَفْعلن"، كما يدخل عليها زحاف الطي (حذف الرابع الساكن) فتصبح "مُسْتَعِلُن" أما العروضة (التفعيلة الأخيرة في الشطر الأول) فلها أربع صور. وأما الضرب (التفعيلة الأخيرة في الشطر الثاني أو في البيت) فله أيضا أربع صور.

و"الرجز" يستعمل تامًّا فتبقى له تفاعيله الست التي أشرنا إليها من قبل، ومجزوءاً فتبقى على أربع:

مستفعلن مستفعلن ** مستفعلن مستفعلن

ويستعمل مشطورًا فيبقى على ثلاث:

مستفعلن مستفعلن مستفعلن

ويستعمل منهوكًا فيبقى على تفعيلتين فقط:

مستفعلن مستفعلن

وتتحد أعاريضه وأضربه في الصحة فتزيد العروض التامة ضربًا آخر غير الصحيح، وهو المقطوع، وفيه تصير مستفعلن إلى مُسْتَفْعِلْ وتحول إلى مفعولن. غير ذلك من تغييرات عروضية.

ولسبب ما تحامل الشعراء والنقاد العرب على هذا البحر الشعري واعتبروه "حمار الشعراء"، لأن ركوبه من السهولة بمكان (كما هو الخبب المشتق من المتدارك الآن)، فاستصغروا شأنه واحتقروه، وأخرجه بعضهم من نطاق الشعر إطلاقًا، وتوهموا أن الراجز غير الشاعر، بل هجاه بعض الشعراء من أمثال أبي العلاء المعري (973 – 1075) الذي قال في "رسالة الغفران": "إن الرجز من سفساف القريض".

وقال في لزومياته:

قصَّرت أنْ تُدرك العلياءَ في شرفٍ ** إن القصائدَ لم يلحق بها الرجزُ

ولم أرْقَ في درجات الكريم ** وهل يبلغ الشاعرَ الراجزُ

ومن لم ينل في القوم رتبةَ شاعر ** تقنَّع في نظمٍ  برتبة راجزِ

وقد قسم المعري الكلام إلى نثر وشعر ورجز (أي أن الرجز غير الشعر عنده)، وشنَّ حملة عنيفة على الرجز والرجَّاز. وجعل أبيات الرجّاز في الجنة حقيرة "ليس لها سموق أبيات الجنة"، ويطلق فيهم حكمه القاسي قائلا: "قصَّرتم أيها النفر، فقُصرَ بكم". ويرى ابن رشيق القيرواني (999 – 1064) في كتابه "العمدة" أن الشاعر يقول الرجز، ولكن الراجز لا يقول القصيد.

وفي أمالي المرتضى: إن الرجز يتسع صدره لفيض من الزحافات والجوازت، مما يضيق القصيد عن أكثره. ومن هنا جاء استخفاف الشعراء القدامى والنقاد بالرجز.

والأراجيز في نظر أعدائها لؤمٌ وخور، قال أحدهم:

أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني ** وفي الأراجيز – خلت – اللؤم والخور

ولاشك أن أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 – 1932) يمتلك موسيقى الشعر وناصية بحوره امتلاكًا عظيمًا، جعل من شعره ينحو إلى الموسيقية نحوًا عظيمًا، غير أنه لم يهمل هذا "الرجز" وكتب منه – في منفاه بإسبانيا (1915 – 1920) - أرجوزته التاريخية الكبيرة "دول العرب وعظماء الإسلام"، ومعظمها مزدوج القافية، أشبه بالنظم التعليمي، ما دعا الناقد صالح الأشتر في كتابه "أندلسيات شوقي" – نقلا عن حسن كامل الصيرفي - يقول عنها: لقد أخطأتْ شوقي في مزدوجته هذه تلك الروحُ الفنية الشعرية العالية التي يمتاز بها إنتاجه الشعري، وقد تدنى في بعض جوانبها إلى مستوى ألفية ابن مالك وأمثالها".

ويرى الأشتر أن الرصيد الأندلسي والفني في هذه الأرجوزة فقير كل الفقر، غير أن الأرجوزة الضخمة التي لم تُغن الفكرة الأندلسية عند شوقي، استطاعت أن تُغني الفكرة العربية عنده جملةً، ذلك أنها دليل صارخ على انصراف شوقي في فترات طويلة من أيامه في برشلونة إلى التاريخ العربي، وسيكون لهذا الانصراف أثره الكبير في توجيه شاعريته وشخصيته، منذ مغادرته برشلونة إلى آخر أيام حياته".

وعموما نحن لسنا في مجال الحكم الفني على تلك الأرجوزة التي قال عنها شوقي: "في برشلونة يسر الله لي أن أنظم من سير الرجال ما يستعظم لتكون شعلة هداية تنير للأحداث طريقهم إلى المجد وجلائل الأعمال، فكتبت أرجوزة "دول العرب وعظائم الإسلام".

ولكن مدار حديثنا في هذا المقال هو اختيار شوقي لبحر الرجز الذي هجاه الشعراء والنقاد القدامى، فرد عليهم شوقي بقوله: "اخترت "الرجز" لأنني لا أرى في هذا البحر الواسع مركبًا للعاجزين عن ركوب البحور الأخرى، ولأن قيمة الشعر بالفكرة والصياغة، وليست بالبحور الشعرية، وعبر عن ذلك قائلا في أرجوزته:

واخترتُ بحرًا واسعًا من الرَّجَزْ ** قد زعموه مركبًا لمن عَجَزْ

يرون رأيًا وأرى خلافَهْ ** الكأس لا تُقوِّم السلافَةْ

وقيمةُ اللؤلؤ في النحور ** بنفسه وليس بالبحور

لقد خالف شوقي الشعراء والنقاد الأقدمين جميعًا، وانتصر للرجز، واتخذ منه قالبًا لمنظومته التاريخية، والتزم فيها ما لا يلزم:

شعرٌ لزمتُ فيه ما لا يلزمُ ** وتركُه أليقُ بي وأحزمُ

ويختتم قوله في تلك القضية العروضية: رضيتُ التحدي، واستجبتُ له.

ويبدو أن الموقف من بحر الرجز انقلب تمامًا في العصر الحديث عمَّا كانه لدى الشعراء والنقاد القدامى، فهذا هو الناقد د. مصطفى غنايم يرى في كتابه "قصيدة الطفل المعاصرة – 2022" أن بحر "الرجز" يسمح بظهور تموُّجات نغمية يعتمد عليها الشاعر في تكوين زوايا ارتكاز صوتية دلالية تضيف ثروة في الأنغام وغِنى في الألحان، وخصوبة في الفواصل والقوافي وإضاءات ثرية في إنتاج بلاغة النص، إضافة إلى كونه أكثر بحور الشعر استخدامًا في قصيدة الطفل.

ويبدو أن شوقي قد أدرك هذا كله – وربما أكثر - في بحر "الرجز" قبل نقادنا المعاصرين، فكتب منه أرجوزته أثناء منفاه في إسبانيا، فكان هذا انتصارًا لـ "الرجز".