ضحى جوني: رسمتُ نفسي لأنّي أريد رؤيتها بعين الناظر
قد يسبق حدس الفنان جميع النظريات والفرضيات الفكرية في رؤية أبعد ممّا هو قائم في الواقع، لأنّ عدسته لا تقفُ عند ظواهر خارجية ولا تكتفي بنقل المعطيات بمنطق التقليد والانعكاس الآلي، إنّما يسبرُ الفنان في الجزئيات التي تقعُ في الظل وقيدَ المناطق اللامرئية، وهذا ما يضفي شكلاً مختلفاً لكثير من الظواهر المألوفة التي تبدو في الأعمال الفنية جديدة، ويتفاعل معها المشاهد بمنطق غير سائد. لا شك إنّ للفنان عالماً لا يتبع فيهِ إكراهات الواقع، بل ما ينفكُ باحثاً عن آليات ليقتنصَ بها ما يداهمه من الأفكار، مصغياً لإرادة الرغبة التي تقوده للنظر في الأشياء، منتزعاً عنها الملامح المعروفة، معيداً صياغة مكونات تقوم عليها المُعادلات الواقعية. لذلك لا استغراب في صراحة فان كوخ في قوله: "عندما أقف أمام حامل اللوحة أشعر أنّي حي على نحو ما". أخذتها دراسة العلوم السياسية عن محيط الفن الحيوي، وانقطعت عن عالم الألوان المنفتح على مساحة واسعة من الاحتمالات، لكن إن ضلّت الطريق لفترة غير قصيرة، لم تفقد الفنانة اللبنانية ضحى جوني خريطة العودة إلى ملعب الفن التشكيلي، إذ بالدراسة الأكاديمية في جامعة فلوريدا، وعلى الرغم من إقامتها بعيدةً عن بلدها، غير أنّ أثيرَ لوحاتها حافل بكل ما يرمزُ إلى لبنان. حول تجربتها الفنية ودور التكوين الأكاديمي على خطِ عملها الإبداعي، كان لنا حوار معها.
- بعد قطعية قد استمرت لمدة غير قصيرة، عُدتِ من جديد إلى عالم الفن التشكيلي. هل هذه الحالة تعكسُ مزاجية الحس الفني؟
لا شك أن مزاجية الحس الفني مرتبطة بشكل كبير بالحالة النفسية للفنان، فكما هو معروف، الإبداع لا ينفصل عن الحالة المزاجية التي قد تكون مصدرَ إلهام أو عائقاً ربما يمنع الفنان من إنتاج أي عمل إبداعي نتيجة لحالة شعورية معينة. أضف إلى ذلك التفاعل الحسي، فالفنان يتأثر بما يراه أو يسمعه، وهذا كفيل بأن ينتقل به نحو حالة شعورية معينة، قد تكون عاملاً لابتعاده لفترة عن عالمه. من هنا أرى أن التوازن الداخلي للفنان يساعده على استثمار هذه الحالة بطريقة إيجابية. على الصعيد الشخصي، ما أبعدني لفترة طويلة عن الرسم كان عبارة عن تراكمات متمثلة بالظروف الحياتية والانشغال بمسؤوليات عديدة. أضف إلى ذلك أني مررت بمرحلة جمود شعوري أفقدني الدافع للتعبير عمّا أريد. بكل الأحوال، أنا أرى هذه الحالة المتمثلة بمزاجية الحس الفني، مرحلة من مراحل النضج الإبداعي والنفسي لدى الفنان.
- من يتأمل لوحاتك الأخيرة، يلاحظ رصدها المستمر للمشاهد التي توحي بالاغتراب، سواء تمثل ذلك في الظواهر المادية أو في المواقف الإنسانية. إلى أي مدى يعكسُ هذا المنحى تجربتك الشخصية في المنفى؟
مما لا شك فيه أن الإنسان بشكل عام ابن بيئته، والفنان ليس بخارج عن هذا القانون. الفنان يتأثر بشكل عميق وشامل بمحيطه، مما يؤثر على مواضيعه الفنية وأسلوبه بشكل عام. على الصعيد الشخصي، كوني فنانة من أصول لبنانية، وبكل ما يمثله هذا العامل من تأثير ثقافي، مجتمعي، سياسي، اقتصادي، وطبيعي، واجهت وما زلت تناقضات كثيرة بين ما أحمله من موروثات ثقافية، اجتماعية، سياسية، اقتصادية لبنانية، وبين ما أعيشه بالحاضر، أي بالمجتمع الأمريكي بكل ما يمثله هذا المجتمع. وكوني فنانة، أضيء في أعمالي على ظواهر مختلفة قد تكون اجتماعية، ثقافية أو حتى سياسية، كان عليّ أن أنصهر في هذا المجتمع الجديد لأعبر عمّا يتولد منه من هذه الظواهر.
- يُلمحُ في مستويات معجمك اللوني ظلال المدرسة الانطباعية مع رغبة في الحفاظ على جينات واقعية، كذلك تحيل أجواء كثير من لوحاتك إلى إدوارد هوبر. كيف يمكن فهم هذا التشابك مع تيارات متنوعة؟
بالفعل، أنا من عشاق المدرسة الانطباعية، وتأثرت كثيراً بـ Claude Monet, Edgar Degas وغيرهم من الفنانين الانطباعيين. أضف إلى ذلك تأثري الكبير بأعمال الفنان الشهير Caravaggio، وهو فنان إيطالي من مؤسسي فن الباروك الرئيسيين، والذي اشتهر بواقعية مفرطة وشديدة، واشتهر أيضاً بما يعرف بالـ Chiaroscuro، أي تقنية التباين القوي بين الضوء والظلام للإضاءة على وجوه الشخصيات وانفعالاتها. وكون أعمالي تمثل وجود شخصية وحيدة متواجدة بأماكن بسيطة بمعظم الأحيان، وغالباً ما يكون الضوء أو مصدر الضوء موجوداً، فهذا يشبه إلى حد ما أسلوب الرسام الأمريكي إدوارد هوبر، إذ إنّي أحرص كثيراً على إظهار المشاعر لشخصيات تحمل فراغات داخلية، وهي حالة تعكس الوحدة والهدوء أو الانعزال في الحياة الأميركية.
- هل من الأفضل بالنسبة إلى الفنان أن يتقيدَ بالمدارس والقواعد الأكاديمية، أو أنَّ التحرّك حراً هو ما يعده بالاكتشافات أكثر؟
أنا أعتقد بأنَّه ليس ضرورياً بالنسبة إلى الفنان أن يتقيد بالمدارس والقواعد الأكاديمية، إلا أن معرفتها تعد من الأدوات المهمة التي تساعده على الإبداع والقدرة العالية للتعبير. لا شك أن الفنان بحاجة أن يكون على دراية كافية بالتشريح، نظريات اللون - وهي خطيرة جداً - والتركيب، إذ إنها وسيلة لإيصال أي عمل إلى مرحلة عالية وليست هدفاً بحد ذاتها. أضف إلى ذلك، كثير من المدارس الفنية، وخاصة التجريدية والسريالية، لا تعتمد على الأدوات الأكاديمية بل على تجربة الفنان الذاتية، ومن هنا يولّد الإبداع والفن الراقي. الفنان الحقيقي هو من يكون لديه رؤية إبداعية ذاتيّة ووعي لما يقدمه.
- ما تعليقك على كلام الفنان الألماني "بول كلي"، وهو يقول إن تكيفَ الفنان مع محتويات صندوق الألوان يفيده أكثر من دراسة الطبيعة؟ هل نفهم من منطوق هذا الرأي بأنَّ استجابة الألوان هي ما تحددُ أفق العمل الفني؟
أعتقد إنَّ بول كلي عندما قال إنَّ الألوان والتعبير الفني قد تكون أعمق وأهم من مجرد تقليد الطبيعة، كان يقصد بأن الفن لا يمكن أن يقتصر على تقليد ما نراه، فمشاعر الفنان وأحاسيسه أهم بكثير. بالواقع، إنتاج ما نستطيع رؤيته مجدداً يعتبر في بعض الأحيان مملاً، لذلك مهمة الفن هي أن يجعلنا نرى ما لا نستطيع رؤيته، وهذا ما يسمى بالإبداع والابتكار. لذلك، بول كلي رأى أن دراسة الألوان وفهمها أهم من دراسة الطبيعة. قد أوافقه الرأي، فمعرفة نظريات الألوان وعلاقات التباين والتناغم فيما بينها أمر مهم جداً بالنسبة للفنان. من هنا نجد العديد من الدراسات المعمقة للألوان، كدراسة جوزيف ألبرز، التي اعتمدتُ عليها كثيراً في محاولة فهمي للألوان وكيفية تفاعلها مع بعضها.
- ماذا عن اختباراتك لتحويل الصورة الذهنية المستوحاة من النصوص الأدبية إلى لوحات فنية؟ هل ترين بأنَّ التواصل بين الكلمة واللون يضيف إلى التجارب الفنية؟
إن تحويل الصور الذهنية التي تنتج عن قراءة النصوص الأدبية إلى لوحات فنية، هي من أهم وأجمل أشكال التفاعل بين الفن والأدب. لم أقم بأي عمل من هذا النوع، لأن أعمالي الفنية تركز على الحالة الاجتماعية أو السياسية الحالية، وليست وليدة قراءة لنصوص أدبية، ولو أني أفكر بالقيام بذلك في المستقبل. السبب الرئيسي وراء ذلك هو أنني أود أن أقوم بهذه التجربة مستندة إلى نصوص وأشعار عربية، وذات قيمة أدبية وفنية شرقية، ولكن القيام بذلك ضمن بيئة غربية لا تمت إلى تلك النصوص أو المضامين التي تحتويها بصلة، يجعل من العمل حالة فنية منعزلة عن المحيط الخارجي، ويصعب فهمه لدى الجمهور الغربي.
- أنتِ شأن جلَّ الفنانين، رسمتِ بورتريهات لنفسك، ما الدافع لرسم هذه الصورة الشخصية؟
هناك دوافع عديدة للفنان كي يقوم برسم نفسه. أولاً، رسم الفنان لنفسه هو شكل من أشكال التعبير، حيث يبحث الفنان بعمق عن هويته، محاولاً فهم مختلف مشاعره التي يمر بها، أو محاولاً التعبير عن حالته النفسية. وقد يلجأ لرسم نفسه محاولاً تخليدها، وكان هذا سائداً في الماضي، إذ كان الرسم الذاتي وسيلة لحفظ الوجود. قد يرسم الفنان نفسه أيضاً للتعبير عن الألم الجسدي، كما فعل بعض الفنانين كفريدا كالو وفنسنت فان كوخ. بالنسبة لي، رسمت نفسي لأسباب عديدة، أهمها أنني أردت أن أتجرد من نفسي وأحاول أن أراها بعين الناظر. أما السبب الأهم، فهو تجاوز حدود البورتريه الذاتي، لأحملها دلالات فكرية أو اجتماعية أو سياسية، فبذلك أوجه رسالة عن طريق رسمي لنفسي.