ضد بلاغة النّخبة: عن الشعر الحلمنتيشي

الظاهرة الشعرية الحديثة تمزج الفصحى والعامية والفكاهة بالسخرية لنقد الواقع الاجتماعي والسياسي، وقد برز فيه شعراء مصريون وسودانيون برعوا في معارضة القصائد الكلاسيكية بأسلوب تهكمي ساخر.

الشعر الحلمنتيشي ظاهرة شعرية حديثة لم يعرفها الشعر العربي القديم ،وإن كان قد عرف ألوانا من الفكاهة والسخرية والهجاء الكاريكاتوري  كما عند ابن الرومي الذي أبدع فيه، ومن هجائه الكايكاتوري الساخر قوله في رجل هجاه هجاء ساخرا:

وجهك ياعمرو فيه طول

وفـي وجوه الكلاب طول

فأيـــن منك الحياء قل لي

يـــا كلب والكلب لا يقول

ويُعزى إلى بعض شعراء العصر العباسي كأبي نواس وبشار بن برد وأبي دلامة  كثير من شعر الفكاهة والسخرية التي مارسوا بها شيئا من التنفيس أو الثأر من بعض مهجوّيهم عبر إبراز المتناقضات وكشف المفارقات ليضحك القارئ عبر تلك الأشعار من أولئك الذين سخر منهم أو تضاحك عليهم أولئك الشعراء ،ولشوقي وحافظ شيء من هذا الشعر الساخر الضاحك  في العصر الحديث تمثيلا لا حصرا.

لكن الشعر الحلمنتيشي فن حديث ساخر يمزج بين الفصحى والعامية وحتى إدخال بعض الكلمات الأجنبية كالإنجليزية ويسمى تارة أخرى بالشعر الفكاهي أو المنلوجي ،غير أن  اسمه الشائع والمتعارف عليه هو الحلمنتيشي، واختلف في أصل التسمية ،فمن قائل نسبة إلى فرقة كانت تؤدي هذا النوع من الشعر عرفت بهذا الاسم ،ومن قائل إن أصل الكلمة مركبة من حلا أي حلو لذيذ ،ومنتشي: نتش أي جذب والنتّاش في العامية المصرية الذي يحكي قصصا عامية غير واقعية  أي الفشار الحلو.فيكون معنى الكلمة شعر الفكاهة والسخرية.وقد يكون الرأي الأول أقرب إلى الصواب.

طابعه إذا الفكاهة والسخرية يجمع بين الألفاظ الفصيحة والعامية بنقد سلوك اجتماعي أو حالة سياسية أو اجتماعية أو إبداء  مشاعر خاصة من التذمر والسخط عرف خاصة في مصر والسوادن في قالب القصيدة العمودية. وما أكثر الأوضاع التي استدعت تذمرا أو سخطا أو تألما من بعض الشعراء من الوضع كالاستبداد السياسي أو مخلفات  الاحتلال والفوارق الطبقية ،أو انتشار الفقر والأمية والمرض ،أو وضع الشاعر أو المثقف المزري في مجتمع يحفل بالمظاهر دون النفاذ إلى  جوهر الأشياء، ولكي تكون المفارقة مدعاة للضحك أو السخرية يلجأ الشعراء المبدعون في هذا اللون الشعري إلى الاستعانة بالقصائد العمودية ومعارضتها بشكل ساخر، تلك القصائد التي لها وزنها واحتفاء الناس بها كآية فنية خالدة من العصر الجاهلي أو الإسلامي فيحدثون بهذا التلاعب مفارقة جالبة للسخرية أو الضحك بإسقاط ذلك على الوضع السياسي أو الاجتماعي أو الطبقي المتردي أو النقد الحاد الساخر لأشخاص معينين ،فكأن الشاعر بذلك يتطهر من آلامه ويتخلص من أوجاعه حين استعصى عليه علاجها بالمنطق والحكمة، أو هو كذلك  وسيلة دفاع من الأنا إزاء القبح الخارجي والنشاز الظاهر في الحياة فتخف الآلام وتتبلسم الجراح شيئا ما ،وما أكثر ما في الواقع العربي من تناقضات صارخة وأدواء يحار النّطاسي في علاجها من مظاهر التخلف أو التناقض الطبقي الصارخ او الآفات الاجتماعية التي تهدّ عافية المجتمع أو ألوان القمع السياسي والرقابة والتخويف والسجن والتعذيب.

يجنح إذا الشعر الحلمنتيشي إلى السهولة ليتوجه إلى العموم وإلى الشعب وعامة الناس وكأنه يرد على النخبة بهدم أصولها وقواعدها الأدبية  والابتعاد عن الأغراض القديمة كالفخر والحكمة ويقصد إلى النقد السياسي أو القومي أو الوطني بمعارضة القصائد القديمة والمزج بين الفصحى والعامية، ويُعزى إلى الشاعر حسين شفيق المصري (1882/1948) المباكرة بإبداع هذا اللون الشعري فهو فارسه ورائده الذي سار على طريقته شعراء كثر في مصر والسودان وحتى في الخليج ومنهم في  مصر مثلا بيرم التونسي الذي يقال إنه هو من أطلق علي هذا اللون الشعري هذا الاسم ،شوقي أبو ناجي، مصطفى رجب، عبد العليم القباني،  ،سيد حجاب، ياسر قطامش ،ومن السعودية أحمد صالح قنديل .

يعد إذا الشاعر حسين شفيق المصري رائد هذا اللون من الشعر، وهو صحفي وشاعر وزجّال من أصول تركية مولده ووفاته بالقاهرة ،لم يتح له إتمام دراسته بسبب مرض أصابه في عينيه، عاش حياة صعبة وقد لقب بسيد الفكاهة والصّعلكة ،وعاش أعزب طيلة عمره ،عالج في شعره الحلمنتيشي السياسة والاجتماع والأخلاق بطريقة التّنكيت والتّبكيت  على رأ ي الشاعر القديم:

تضاحكت بينهم معجبا 

وشر البلية مـــا يضحك

حرر في بداية عمله الصحفي ب"الجوائب" ثم "المنبر" ومجلة "الكشكول" ومجلة "الخلاعة" و"المسامير" حيث نشر شعره الحلمنتيشي ، وأصدر صحيفة فكاهية "السيف والأيام" ،كما رأس تحرير مجلة "الفكاهة" وأصابه العمى في أواخر حياته وجمع تلميذه أبوبثينة مختارات من شعره في كتاب "أبو نواس الجديد".

عاش مبذرا متلافا للمال سكّيرا يكره أصحاب المواهب والشعراء والأدباء الذين رآهم أحسن حالا منه أو اتخذوا مواهبهم زلفى للتقرب من أصحاب السلطان أو الجاه والمنصب ولم تنج حتى نفسه منه فهجاها وسخر منها أسوة بالشاعر المخضرم الحطيئة الذين لم يسلم من لسانه أبوه وأمه وزوجته وأخيرا هجا حتى نفسه.

انتقم من نسه بتدمير نفسه بالإغراق في الموبقات ولم ينل من المجتمع غير لقب "سيّد الفكاهة" أو "الشاعر الضّاحك" . لكن تردده على المقاهي واختلاف المهن التي مارسها وحياة الرصيف عرفته ببؤس الناس وتناقضات الحياة فانعكس هذا على شعره ولونه بطيف معين أجلى ما فيه السخرية من لامعقولية الأشياء.

عارض حسين شفيق المصري المعلقات العشر وسماها المشعلقات سخر فيها من أشخاص ومواقف وأوضاع مزرية،

ومن أمثلة ذلك قوله في المشعلقة الخامسة معارضا قصيدة عنترة:

هل غادر الشعراء من متردّم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

فيقول هو:

يـا دار عبلة بالعطوف تكلمي

وابكي كثيرا دار عبلة والطمي

دار لجاهلة سخيف عقلــــــــها

وجه الببور كوجههـــا المتغمغم

فيهــــا اثنتان وأربعون بعوضة

ســـودا كخافية الغراب الأسحم

وكــــــــــــأن فأرة منزل متهدم

سبقت خنافسهـــــــــــا فلم أتقدم

ومن قوله في المشعلقة الأولى معارضا قصيدة طرفة بن العبد:

لـــــــــــخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

بينما يقول حسين شفيق:

لــــــــزينب دكان بحارة منجد

تــــلوح بها أقفاص عيش مقدد

وقوفا بها صحبي على هزارها

يقــولون لا تقطع هزارك واقعد

رأت زوجها يدنو فغطت ذراعها

بشــــــــال طويل كالملاية أسود

وقالت يالهوي جتكو نيلة امشوا من هنا

أفندية ايه دول جوزي شايف دا شيء ردي

 ومن الشعر الحلمنتيشي لسيد حجاب معارضا قصيدة أحمد شوقي الشهيرة :

سلوا قلبي غداة سلا وثابا

لعلّ على الجمال له عتابا

يقول سيد حجاب معارضا شوقي منتقدا تردي الواقع واختلاط الحابل بالنابل:

 سلوا قلبي وقولوا لي الجوابا

لـــــــماذا حالنا أضحى هبابا

لقد زاد الفساد وساد فينا

فــلم ينفع بوليس أو نيابة

وشاع الجهل حتى أن بعضا

مـــــن العلماء لم يفتح كتابا

وما نيل المطالب بالطيابة

دي مش دنيا ياشوقي بيه، دي غابة

وعارض ياسر قطامش وهو من أكثر الشعراء المعاصرين إبداعا في هذا اللون الشعري قصيدة الاطلال لإبراهيم ناجي:

يا فؤادي لا تسل أين الهوى

كان صرحا من خيال فهوى

بقول ياسر قطامش:

يا فؤادي لا تسل أين الجنيه

إنه مات فقف وابكي عليه

اسقني واشرب على أطلاله

قهوة من أدمعي أو نسكافيه

لقد كان الشعر الحلمنتيشي مدونة شعرية جديدة أثرت الأدب الحديث على الرغم من كسرها للنمط الكلاسيكي الفخم ونخبوية البلاغة بمزج العامية بالفصحى وحتى اللفظ الأجنبي وتوخي السهولة والتوجه نحو الشعب والتخلي عن كثير من الأغراض الشعرية القديمة في قالب الفكاهة والسخرية  لغرض نقد الواقع في تعقيداته وإشكالاته وتفاعل الذات المبدعة المتألمة معه ، وهي ذات شاعرة لم تجد الجد والرزانة والحكمة والعمل والكفاح آليات دفاعية للأنا في إثبات وجودها وإشباع رغباتها  فلجأت إلى الهزل والمزاح والسخرية  للتعاطي مع ذلك الواقع والسخرية منه ومن ناسه ،وقد كانت حياة حسين شفيق المصري بما انتابها من متناقضات وما أغر ق فيه نفسه من عربدة وصعلكة وسكر وتحشيش زادا أمدته بالكثير من الأفكار والرؤى الشعرية الي خرج بها عن تقاليد الشاعرية وأبجديات فروسيتها ووجدت من الأتباع والمعجبين والمتحلقين حوله ما شفا غيظه وبلسم جراحه فذهب في طريقته الإبداعية هذه لا يلوي على شيء  ساخرا من الناس والحياة والنخبة وبلاغتها وتناقضات العصر. وفي النفس الإنسانية ميل إلى الدعابة والمرح والضحك لكن قد يتخذ ذلك منهجا في الحياة لما يتعذر الجد والمنطق والعقلانية وتميل الذات إلى  الكسل و اطّراح العقل وهدم الصحة  تنديدا بالظلم والقهر ولا معقولية العالم وقديما قال الشاعر:

وكم ذا بمصر من المضحكات

ولكنــــــــــــــــه ضحك كالبكا

واليوم يتنافس فرسان هذا اللون من الشعر في التعاطي مع الحياة بكافة أطيافها بنفس فني إبداعي لا يقاوم مواصلين نهج الشاعر الضاحك حسين شفيق المصري رائد هذا اللون من الشعر في العصر الحديث.