عالم ما بعد الحقيقة

كل عمليات رفع المعنويات في غزة هي عبارة عن تمارين لمزيد من التضليل وغسل الأدمغة.

بعد المأثرة التي أنجزتها حماس في غزة هناك مَن ينتظر قدوم شهر رمضان بفرح لا يستطيع إخفاءه. الحرب بكل ويلاتها ومآسيها لا تقع إلا لتُطوى صفحتها أما عن طريق طقوس كئيبة تستحضر وقائع ثانوية جرت قبل أكثر من ألف سنة ولم تحتل إلا جزءا غير مرئي من التاريخ أو من خلال مراسم فرح يشعر المرء أنها تُقام لأول مرة بالرغم من أنها تتكرر سنويا وبطريقة لا تحمل معها أي شيء جديد. تكون غزة هناك. في الجانب الذي تحتاج فيه مئات الالاف من البشر إلى خيام وكرفانات لإيوائهم بعد أن دمرت الحرب بيوتها. ذلك لا يمنع التفكير في الموائد الرمضانية التي تُمد أمام شاشات التلفزيون لمتابعة آخر ما تنتجه الدراما العربية من مسلسلات. وما من ممثلة شابة إلا وتجد لها دورا في إعادة صياغة العقل العربي الذي صار منذ زمن غزوة هولاكو فارغا كالطبل. لقد قُبر مشروع النهضة العربية منذ انشاء الدولة العبرية على أرض فلسطين فاحتاج العرب إلى أنظمة وطنية يقودها العسكر. لا مكان لدعاة النهضة بيننا. التبسيط الذي عبرت عنه الشعارات الثورية هو كل ما كنا نحتاجه في مرحلة التمهيد للإنزلاق إلى الحضيض.

منذ لورنس العرب كانت الوصية تنص على أن الإسلام السياسي هو العلاج. غير أن ذلك العلاج جاء ليكمل رغبة الانتحار الذاتي التي تلخص علاقة العقل العربي بكل ما يحيطه. فكل الشعارات القومية النبيلة التي تم رفعها عبر عشرات السنين تحولت إلى أدوات للهدم والتخريب وتمزيق النسيج القومي وممارسة الاستقواء عن طريق هدر الثروات على مشاريع فاسدة، كلها رياء وكذب ونفاق وانتهاك لنزاهة وطهر وعفة الحقيقة. كم تعلمنا كراهية الحقيقة عبر عمر، ملأته الأنظمة الثورية بالأكاذيب. فلم تعد فلسطين في مكانها وهو ما مهد لإزاحة دول عربية عديدة عن أمكنتها ولا تكفي الخرائط على الورق لمعرفة حقيقة ما يقع على الأرض. فلا العراق عراق ولا سوريا سوريا ولا لبنان ولا اليمن يمن. النشيد المدرسي صار يكذب. لقد اُستعملت غزة وسيلة للإبتزاز من أجل أن تصمت الحواس. فلا عين ترى ولا أذن تسمع. سيناريو يتم نقله من الورق إلى الأرض لصنع واقع بديل. واقع يحارب الحقيقة وما عليك سوى أن تقبل به أو أن تكون عدوا.

لا أحد من المهللين لقدوم شهر رمضان يفكر في ما جرى لأهل غزة. لقد ضاع أملهم في الحياة. كل عمليات رفع المعنويات هي عبارة عن تمارين لمزيد من التضليل وغسل الأدمغة. ليست الحقيقة على شاشات التلفزيون. ما يقوله المحللون هو كلام مدفوع الثمن. هناك كذب كثير من أجل إخفاء صورة الشعب وإظهار صورة الأبطال الذين عرفوا كيف يختبئون ليكونوا مجرد صورة كما هي حال حسن نصر الله. وإسرائيل ذكية في المساهمة في التعبئة الجماهيرية. تعرف أن صوتها صار مسموعا من خلال القنوات الفضائية العربية. الحقيقة لا تخدمها وهي تعرف أنها تقاتل على أرض ملغومة بالأوهام. لذلك فإنها محت كل ما وجدته في طريقها من أسباب الحياة وحولت شعبا بأكمله إلى مادة للإغاثة غير أنها لم تقطع الأمل في أن تؤدي مفاوضاتها مع حركة حماس إلى إطلاق سراح ما تبقى من مواطنيها الذين تم أسرهم يوم 7 أكتوبر الماضي. كل هذا القتل في غزة لا يمنع حركة حماس من تقديم اقتراحاتها من أجل أن تعلن انتصارها.

ما من أحد لا يتمنى أن تخرج غزة منتصرة في الحرب التي تُشن عليها. ولكن الحقيقة تقول إن معادلة النصر والهزيمة لم تعد ممكنة التطبيق على أرض غزة. خرجت غزة من نطاق تلك المعادلة منذ اليوم الأول. وهو ما كان مؤكدا حتى بالنسبة لـ"حماس". كان جنون إسرائيل هو المطلوب. وهو ما تحقق. كل كلام آخر هو بمثابة خيانة للحقيقة. أما أن تبقى حماس أو لا تبقى فذلك ليس معيارا للحقيقة. فـ"حماس" لم تعلن التعبئة لحربها، بل فاجأت أهل غزة مثلما فاجأت إسرائيل غير أنها في انتظار شهر رمضان ستقوم إذا ما وضعت الحرب أوزارها بإعلان التعبئة من أجل الشهر الفضيل. أما كان علينا أن نفهم أن "حماس" ليست حركة تحرر وطني فلسطيني، بل هي جزء من محور المقاومة الإسلامية الذي تقوده إيران؟ وإيران هي أكبر كذبة تم اختراعها من أجل أن لا يكون العرب موجودين في حلبة الصراع مع إسرائيل.