عبدالقادر عبدللي يستحوذ على أجزاء من الحياة الهاربة
عبدالقادر عبدللي ( 1957-2017 ) أحد أبرز مترجمي الأدب التركي إلى العربية، بل هو سفير الأدب التركي في الشارع الثقافي العربي، الشارع الذي تعرف على أهم الأسماء الأدبية التركية عن طريقه، فهو الذي حمل عزيز نيسين وأعماله الساخرة إلى العربية، كما حمل أورهان باموق وأعماله، باموق الحاصل على جائزة نوبل للآداب في عام ( 2006 ) والذي إتخذه كمترجم حصري لأعماله إلى العربية، كما ترجم لكل من يشار كمال وناظم حكمت وخلدون طائر وأليف شافاق وآخرين حتى بلغت مجموع ترجماته نحو ( 80 ) كتاباً، كما ترجم سيناريوهات لمعظم الأعمال التلفزيونية الدرامية التركية المدبلجة إلى العربية وأهمها مسلسلي نور ووادي الذئاب .
عبدالقادر عبدللي إلى جانب كونه مترجما وأديبا وكاتبا فهو فنان تشكيلي، وستكون وقفتنا عند هذا الجانب الأخير لنسلط ولو القليل من الضوء على تجربته الفنية وعلاقته مع الريشة والألوان، هذه العلاقة التي ولدت فيه وهو صغير، وحين حاول الإنضمام إلى كلية الفنون الجميلة بدمشق بعد حصوله على الثانوية العامة لم يقبل، لكن هذا لم ينل من عزيمته وإصراره على متابعة الفن والعمل فيه، ولعل هذا ما كان وراء لجوئه إلى إسطنبول والدراسة في إحدى جامعاتها (جامعة المعمار سنان) ليتخرج منها وتحديداً من كلية فنون المسرح والمشهد، الكلية الأقرب للرسم، ونال على الماجستير في الرسوم المتحركة، وصحيح أن الترجمة والكتابة أخذت الكثير من وقته لكن الجانب التشكيلي لم يغب من قلبه ولم تفارق روحه، بل كان الجانب الأهم عنده، الجانب الذي بقي يدغدغ أحاسيسه وعشقه، فحبه للريشة واللون كان كبيراً، حتى أنه كان يحلم كثيراً بالعودة إلى المدينة التي أنجبته (إدلب) ليقضي فيها ما تبقى من عمره ويتفرغ للألوان تماماً، لكن المرض المفاجىء غدر به وخانه ليبعده عن تحقيق حلمه هذا .
عبدللي الفنان منذ البدء كان ينتمي إلى فصيلة الأرض والزمن والقيم، يحتفي بخيوط الحياة وينسجها كينونة قادرة على إطلاق العنان لعناصره المجبولة بالماء والممكن من داخل ذاكرته البصرية، وبحاسة الكشف ضمن فضاء تعج بقديمه وجديده يستحوذ عبدللي على أجزاء من الحياة الهاربة بسرعة الضوء، الخلاقة بين الفعل ورد الفعل، منحازاً للهرولة في غبش الفجر، متجاوزاً المتاهات وبزوغ الهروب فيها، فهو ينهض بأحلامه ويوقظها علها تبحر في نهاره وتتولى رفع الستارة عن مراتبه كلها، ويحولها من مجرد كيانات مختلفة إلى عوالم تضج به ويحتفظ بالإنسان فيه وبأبعاد رمزية وإيحائية لتنحاز وبشروط إرسالية إلى الترابط بين مظاهر الأشياء وألفاظها بوصفهما مدركات للذات المتعاقد على الأقل مع الخيال المسموع .
عبدللي كان ميالاً لسيريالية فيها تتحقق حالات الخلق والتوالد على نحو غير تقريري، فالفعل وبمتواليات ضوئية تحدد الرغبة في التأمل لإنتاج نصوص فنية بذهنية متقدة إليها تتسرب مفاهيم حسية غير مجردة تستند إلى علاقات تجمع في ذاتها كل سلوكيات الطريق التي قد تنظم تجربته وتبلغنا عنها دون أي تشتيت في آليات الطرح التي تكتسب عنده برؤية بصرية وأبعاد روحية تجعل من أشكاله وفراغاته حركات مبنية على مفردات تشكيلية تميزه في طريقة تعامله مع المعطى الجمالي لقائمة منتجاته وترسم محور عمله الفني، فثمة تباين في محاولاته المختلفة الأولى منها واللاحقة أيضاً وكذلك ثمة تباين في مفاهيمه غير التقليدية، فمنطلقاته تنشأ من بنى تأليفية تقترب من تراكم قيمه البصرية وبالتالي من الفن البصري دون أن يتخلى من وسائله التعبيرية، ومن هنا تأخذ أعماله أهميتها الكبرى من إنسياب حركتها الفنية في ظرفها الإجتماعي إلى الإلتحاق بطروحات ومنطلقات أساسية قد تعكس واقعه الجمالي .
عبدللي لم يقف على قارعة الطريق، بل حمل الطريق وسار فيه حتى بلّ الطريق من رائحته، من مبادئه نفسها، ومن إشتغالاته الكثيرة، فهو في لوحاته التي تعامل معها بوحدات تقنية تمثل مجموع ترابطاته بين ذاته المدركة وموضوعاته ضمن علاقة غير مباشرة بتلك العلامات التي تقتضي منه إعادة صياغتها وإعادة إنتاجها بمفرداته هو والتي ستستدعي منه على الأقل مبدأ الخضوع للقرائن والرموز والتي ستجعل لوحته معللة بحصيلة من التقطيعات الواقعية بإجراءاتها الحاملة لدلالاتها، فهي التي تقوده وبإنطباعات بصرية متداخلة إلى حد ما إلى تراكمات تشكيلية جديدة تكون ملاءمة لوسائل التعبير عن سيريالية تقترب بتداخل أشكالها ومجسماتها من التقشف والإختزال ذي الطابع البانورامي .
عبدللي لم ينتظر الحافلة، ولم يركبها قط بل سار إليها على مجموعة من الوقائع، مجموعة من الكائنات التي تروي قصته ليؤسس لها حقائق بقدراتها الدلالية وبمكوناتها المختلفة حتى يستميت حباً بها، بل حتى يستوطن بأنساقه الأخرى والمختلفة وبطاقاته التي يشغلها كاملة في إنتاج رموز وإشارات تحمل تضاريس النفس الإنسانية بينابيعها العذبة وصخورها الجلمودية وهنا ضمن هذا التناقض يكمن السبب الأهم الذي جعل عبدللي يختار هذا الأسلوب وهذا الطريق الشائك إلى حد كبير، لا يمشي فيه إلا المزروع بالثقة والتحدي، بالمعرفة والحب، وعبدللي كان يملك كل ذلك، وهذا ما جعله يسمح لمتلقيه السير في داخل أعماله وتأملها من الداخل ذاته حتى يقطف ما طاب له من الثمار الناضجة.