عراق من غير مياه يتنكر لتاريخه

لأن العراق القوي صار جزءا من الماضي فإن تركيا اليوم تملك 22 سدا على نهري دجلة والفرات، بينما نشطت ايران هي الأخرى في بناء السدود على روافد النهرين في مخالفة واضحة للقوانين الدولية.

يومها لم تكن هناك إيران ولا تركيا وكان نهرا دجلة والفرات نهرين وطنيين بطريقة مجازية. أما حين قامت الدولة العراقية بعد انهيار الدولة العثمانية فقد كانت هناك اتفاقات دولية ضمنت للعراق حصته من المياه وهي حصة حاولت تركيا باعتبارها دولة المنبع أن تتلاعب بها باستمرار ولكنها لم تجرؤ في الماضي على أن تصل بتلك الحصة إلى المستوى الذي يهدد أمن العراق المائي.

دائما كانت تركيا تفكر في بناء سدود داخل أراضيها من أجل احتكار مياه النهرين ولكن وجود دولة قوية في العراق كان قد وقف حائلا دون تنفيذ تلك السدود. في واحدة من مراحل التوتر بين العراق وتركيا في القرن الماضي اعتبر الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أي إجراء تركي في ذلك المجال بمثابة إعلان حرب على العراق.

ولأن العراق القوي صار جزءا من الماضي فإن تركيا اليوم تملك 22 سدا على نهري دجلة والفرات. من جانب آخر فإن إيران التي ينبع منها عدد من الروافد التي تصب في نهر دجلة نشطت هي الأخرى في بناء السدود على تلك الروافد في مخالفة واضحة للقوانين الدولية. المفارقة تكمن في أن الدولتين اللتين تملكان علاقات جيدة مع الدولة التي أقامها الأميركان في العراق بعد احتلاله لا تأخذان بعين الاعتبار مصالح العراق وشعبه في حين أنهما لم تعملا على تهديد تلك المصالح في الماضي على الرغم من أن علاقتهما بالعراق لم تكن حسنة دائما.

وليس سرا أن المشكلة تكمن في طريقة تعامل الحكومات العراقية المتتالية بعد 2003 مع تلك المسألة الحيوية التي يرتبط بها مصير العراق والعراقيين. فعراق من غير موارد مائية كافية هو صحراء قاحلة. واحدة من أكثر صور ذلك الإهمال إثارة للغرابة أن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني اجتمع بالرئيس التركي أردوغان مؤخرا وناقش معه جميع القضايا التي تخص المنطقة باستثناء مسألة المياه التي لم يجد السوداني أهمية في طرحها.

على الرغم من أن شحة المياه في العراق صارت اليوم مرئية بطريقة تصدم الناظر إلى مستويات المياه في النهرين بعد أن توقفت الكثير من مشاريع الري عن العمل ولم تعد الكثير من الأراضي الزراعية صالحة للاستعمال فإن الحكومات العراقية لم تتقدم بشكوى إلى المنظمات العالمية ذات الصلة ومن خلالها إلى المحاكم الدولية. لم يطرح العراق مشكلته على الصعيد العالمي ولم يتخذ أي إجراءات رادعة في حق الدولتين اللتين تغتصبان حقه في المياه وهما بطريقة أو بأخرى تشنان الحرب عليه.

لا يعاني العراق من نقص في عدد الخبراء ذوي الصلة العميقة بالموضوع. منذ أكثر من تسعين سنة هناك دوائر للري في كل محافظة من محافظات العراق. وكان العراق قد أنشأ في سبعينات القرن الماضي نظاما وطنيا للري كلفه مليارات الدولارات من أجل استصلاح الأراضي وصولا إلى الاكتفاء الغذائي. كل هذا يعني أن العراق قادر على الدفاع عن حقوقه المائية في المحافل الدولية ولكن تنقصه الإرادة السياسية ببعدها الوطني. يحتاج العراق إلى مَن يؤمن بمستقبله ليشعر أن ما يحدث من حوله اليوم من مؤامرات تهدف إلى اغتصاب حقه القانوني في المياه إنما يشكل تهديدا حقيقيا لمستقبل العيش الآمن. فالأمن المائي جزء من سيادة الدولة وحق يجب الدفاع عنه.

تركيا ومن بعدها إيران تعتبران المياه سلعة تجارية وهما إذ تضربان عرض الحائط بالاتفاقات الدولية التي تنص على حصة دولة المصب من المياه بسبب ضعف تلك الدولة وغياب الإرادة الوطنية لدى حكوماتها إنما تراهنان على مستقبل، يكون العراق فيه سوقا للمياه حين يضطر إلى استيرادها منهما. وهو مصير لا يليق بالعراق، وهو بلاد النهرين، ولا يستحقه شعبه الذي بنى حضاراته قبل أكثر من خمسة آلاف سنة على الأنهار.

نهاية حزينة للعراق. يُروى أن السومريين حين سقطت دولة أور الثالثة حملوا أمتعتهم واتجهوا بحزن إلى الأهوار، المياه التي كانت تحيط بهم من كل جانب وهناك اختفوا. اليوم إلى أين يذهب العراقيون إذا جف نهراهما الخالدان وأصبحا مجرد خطين على الخرائط المدرسية؟ لست على ثقة من أن حكوماتهم التي لا تريد عراقا قويا، مكتفيا بإرادته ستتمكن من وضع حلول سيادية لمشكلة شحة المياه العذبة كما فعلت الدول الخليجية. حتى السمك المسكوف سيكون واحدة من حكايات الماضي.