عرفان حمدي وتأسيس رؤية الحضور والغياب
"قد توجد نار عظيمة في أرواحنا، لكن لا أحد يأتي ليستدفئ بها.. ومن يمرون بنا لا يرَون إلا خيطاً رفيعاً من الدخان." تذكرت مقولة فان كوخ هذه وأنا أقف أمام أعمال الفنان التشكيلي عرفان حمدي، الشقيق الأصغر للفنان الذي لا يموت عمر حمدي (مالفا)، وكأن هذه النار العظيمة تخرج من أعماله ومن أحمَره ليتلحف أرواحنا، وبأن ما نراه ليس فقط خيطاً رفيعاً من الدخان، بل ناراً جئنا نحترق بها ومعها لا لنستدفئ بها. فعرفان، وبتواصل لوني حيث يشكّل كل مدلول عنده بما يتحكم بذاته، يعي طروحاته الجدلية وإمكانية فتح المجال أمامها للوصول إلى نقاش لا ينتهي، فهو كما يعي سلالة القيم الجمالية/الإنسانية، يعي غرض الهوامش وهي تستند إلى قابلية الاختلاف في البؤر، بقصد تقويض المركز، بل ونسفه.
فوجود الشيء أو الكينونة عنده هو إثبات إرادة الحياة في العمل ذاته، شاملاً كل عناصره ومفرداته. فالتفكير الجمالي/الفني في قضايا الوجود والواقع هو وحدات لونية في عمله. فعرفان يجمع بين المكنونات الداخلية لشخوصه وبين عناصر لغته، فيرسم عناصر البنية بعضها ببعض لتثبيت الدلالة وتحديد المفاهيم، وإن في إقامة اللاوعي. فالقفز إلى، وبين، الأبعاد المجازية يرغم الفنان/العمل على تأسيس رؤية الحضور والغياب، وإن بعلامات قابلة للتحديد والتعبير معاً، حيث يتفادى الطمس وسط الفراغات، كونه لا يغلق المساحات وما يصدر عنها، بل يدعها إلى الحركة المستديمة.
فالخلود إلى الهدوء ليس هو ما ينشده عرفان، ولا الصراخ في صورته البسيطة يحيله إلى التنشيط الذهني، بل هناك قوة مضادة تتعلق ببداية ولا نهاية منتَجه، تضع مساره ضمن مسارات تأويلية قد تستحضر مخزونه الثقافي من آخر الأفق إلى بداية الذات، وهذا ما يجعله يعيد صياغاته، بل ويتسلل إلى شبكة من المواضيع المختلفة، مع الاهتمام بدواخل النفس البشرية والتعمق فيها، وإخراج ما يعكس سوداويتها. وعلى نحو أوضح، فهذه الانعكاسات تبدو بارزة في تعامله مع ألوانه، وكذلك مع ملامح وجوهه، الصارخة بقسوةٍ منها، والفاقدة لتلك التفاصيل على نحوٍ ما.
فهو يضمن فضاءه بسجال غير إجرائي، بل بالالتفاف حول العلامات ومطاردتها، ليعطي مساهماته كمّاً من التأثير القادم من الوسط الذي يعيش فيه ويتنفس فيه، من الأشياء التي يحملها من محيطه الصغير قبل الكبير. فهذا الكمون غير المرئي هو الذي ينهضه ليمضي نحو المساحات الحمراء، وكشف النقاب عن بناءاته بكل تأويلاتها ونظمها. فالفعل الفني عنده لون وحركاته، مضامين وتحطيمها، استبصار شيفرات الوجع وترك فكها للآخر/المتلقي. وهذا ما يجعله يعطي أهمية أكثر للأسئلة المتصدعة، والتي تلد من الجانب المتصدع للإنسان.
ويمكن القول إن عرفان يحقق مواجهة بصرية غير محكومة بشروط، بين الدال والمدلول، وتستند إلى طبيعة العلاقة بين سيرورة الإدراك وسيرورة إنتاج الدلالة. ولا يمكن لنا كمتلقين إلا أن نشمّ من صيغه التعبيرية ظواهر بصرية تستدعي منا الكثير من تنشيط عوالمنا الذهنية، لإشعال حدود التواصل بما يلائم الأثر الذي سكننا، والذي سيترك حضوره لزمنٍ ما.
عرفان حمدي يستعير وجهاً من وجوه مالفا، ذات الوجه الذي يتكرر في أكثر من عمل عند مالفا وكذلك عنده. قد يكون وجه أبيهما، الذي يفرض حضوره بقساوته الفلاحية الشرقية. فكلاهما (مالفا وعرفان) شربا الحليب من ذات التعب، ولهذا قد يكون الأمر عادياً وأكثر. فلكلٍ منهما لغته، وبمفردات تلتقي كثيراً وتختلف قليلاً. فمالفا يستجيب لتعبيرية ترياقية، فيها من الزهد ما يكفي لإبراز إرادة الحياة، رغم التفكيك الحاصل في الروح الإنسانية. على حين، عرفان يجمع بين الشيء ووجوده، وبدراسة مراتب هذا الوجود بوجهٍ معنوي ذي نزعة واقعية، مسكونةٍ بنهرٍ من التعبير، كصوتٍ ناطقٍ بعطائه.
عرفان يركّز على أولوية الكلام (الفكرة، الموضوع)، ثم يبعثر تجلياته كرذاذٍ لونيٍ جميل، وهذا هو الوجه الأهم في خطواته، تلك الخطوات التي هي أشبه باعترافاته عن الإنسان المهزوم رغماً عنه، وفي زمنٍ مهزوم. عن الحياة المهجورة بقوة الحجب والعنف.