عمّن تدافع أوامر الدفاع في الأردن؟

إذا أرادت السلطة الإصلاح السياسي فعلا، فلا بد من شواهد. وليس أدعى من هذا التوقيت لرفع كل القيود المفروضة على الحريات العامة وإلغاء العمل بقانون الدفاع الذي فهم الأردنيون تماما الغاية من فرضه.
صار الناس يتلقون أوامر الدفاع بالفتور وأحيانا بالتجاهل والاحتجاج
ما فائدة "قانون الحرب" والدولة مشغولة بمناقشة تعديلات مفصلية على الدستور

يتأكد يوما بعد يوم إن أوامر الدفاع التي تحكم الأردن بهدف حمايته من أزمة كوفيد ما هي إلا وسيلة لتبريد قضايا وأزمات أخرى يمر بها البلد مع تشديد القبضة الأمنية على ما يقوله الناس ويكتبونه ويحتجّون من أجله.
خطر الوباء في تفاقم مستمر منذ أسابيع مع الارتفاع اللافت في أعداد الوفيات والإصابات، وتزايد التحذيرات الدولية من السفر الى الأردن في موجة وبائية جديدة سبقتها موجات منذ بدء سريان القانون الاستثنائي قبل عشرين شهرا.
لم تقدم الحكومة تبريرا عمليا أو منطقيا واحدا لاستمرار العمل بالقانون الذي يُستخدم في حالات الحرب، وذلك رغم وجود قوانين أخرى يمكن للحكومة تفعيلها لإدارة أزمة الوباء مثلما يفعل الكثير من دول العالم. 
اليوم صار الناس يتلقون أوامر الدفاع بالفتور وأحيانا بالرفض والتجاهل بعد أن كان حجم الالتزام كبيرا في بدايات الأزمة، حين ظلت الحكومة تشجع الأردنيين على مراعاة التباعد البدني ووضع الكمامة والالتزام بساعات الإغلاق الحظر.
كانت تلك فترة اختبار شعبية قصيرة للحكومة التي يغلب فقدان الثقة على علاقتها بالأردنيين، إلى أن ظهر الارتباك والتناقض في اتخاذ القرارات وتطبيقها وتجلى توظيف أوامر الدفاع لغايات سياسية وأمنية بعيدة عن احتواء الوباء واستيعاب تداعياته الاقتصادية والاجتماعية.
رغم أن في وسع الحكومة تشديد القيود على الحريات العامة ومنها حرية التجمع وحرية التعبير بمقتضى تشريعات أخرى، غير ان أوامر الدفاع اطلقت اليد الطولى للأجهزة الأمنية بملاحقة الناشطين واعتقالهم ومنعهم من الاحتجاج في الشارع، وللدوريات الالكترونية بمحاسبة الناس على ما يكتبون في وسائل الاعلام ومواقع التواصل.
بموازاة ذلك كله، مرّت على البلد أزمات وقضايا خلافية وضعتها أجهزة الحكم على ذمة قانون الدفاع، من أزمة الأمير حمزة والتراجع الحاد في الاقتصاد والمالية العامة الى التغييرات على الحكومة واستقالات وإقالات الوزراء وصولا الى مقترحات تعديل الدستور وقوانين الحياة السياسية.
لم يصل الأردنيون الى فهم كامل لما يجري على صعيد هذه الأحداث والقضايا وبقيت أسئلة مهمة وكثيرة عالقة في الأذهان، كما لو أن الإجابات المعقولة والمقنِعة عالقة أيضا بأوامر الدفاع.
ولم تكتفِ أجهزة الحكم بالتكتم والتحفظ وغياب الشفافية، فقد عمدت كذلك الى تقييد النقاش العام أكثر من مرة بقرارات منع النشر الصادرة عن القضاء والتحذيرات الحكومية التخويفية للناس من الخوض في قضايا على صلة مباشرة بحياتهم اليومية.
بالتأكيد ليست المشكلة الأساسية في قانون الدفاع وأوامره، بقدر ما هي متصلة بالنهج المتبع منذ عقود في تعامل أجهزة الحكم مع قضايا الحريات العامة. لكن القانون الاستثنائي ساهم بشكل كبير في تجميد الحوار المجتمعي واللعب على عامل الوقت لكي ينسى الناس أو يتناسوا الأسئلة ومباعث القلق.
على الجانب الاقتصادي، ارتفعت معدلات التضخم وسادت حالة من انفلات الاسعار كما تآكلت الدخول وضعفت السيطرة الحكومية على الأسواق، ما أدى إلى إلحاق أضرار بالغة بالفئات الأكثر ضعفا. وارتفع الدين العام وزاد عجز الموازنة.
ما جدوى تطبيق قانون الدفاع الذي أتاح لبنوك وشركات كبرى تحقيق أرباح طائلة، بينما تفشت البطالة حتى وصلت الى نصف الشباب القادرين على العمل بعد أن فقد الآلاف وظائفهم وأعمالهم بسبب إجراءات الإغلاق والحظر؟
ما الفائدة من تطبيق القانون الحربي الذي يمنع الوقفات الاحتجاجية بدعوى الالتزام بقواعد التباعد البدني، ويسمح بإقامة الحفلات الغنائية التي تحضرها حشود من المتفرجين؟
قل أيام قرر محافظ العاصمة منع إقامة جميع الحفلات الغنائية في عمان تطبيقا لأوامر الدفاع لكن وزير الداخلية ألغى القرار بعد ساعات بحجة الحصول على موافقات مسبقة. ولم يعرف الناس لماذا المنع ولماذا الموافقة لكنهم لم يستغربوا التخبط الحكومي المعهود منذ بدء انتشار الفيروس في الأردن.
لا شك ان قانون الدفاع أضاف بالسالب الى رصيد الحكومة الحالية من فقدان الثقة الشعبية السائدة منذ زمن تجاه أي حكومة، لكن سريانه حتى الآن من دون ضرورة مفيدة للصحة العامة يعكس مدى جدية السلطة في السير بمشروع الإصلاح السياسي الموعود.
الدولة مشغولة، أو تبدو كذلك، بمناقشة تعديلات دستورية مفصلية في تركيبة نظام الحكم الملكي، ومهمة لتحديد ما إذا كان توسيع المشاركة السياسية هدفا حقيقيا لمشروع الإصلاح أم أنه مقدمات عهد جديد من تعزيز صلاحيات الملك ومزيد من إضعاف الحكومة "المنتخبة" والبرلمان في المستقبل.
الدولة مشغولة أيضا بتعديل قانوني الأحزاب والانتخابات تحت عنوان "التحديث السياسي" ولكن بتفاصيل مثيرة للجدل والنقاش وحاسمة في اختيار النموذج الديمقراطي والبيئة التشريعية المواتية لتشكيل الحكومات من أحزاب البرلمان وليس بتكليف من الملك.
الناس لديهم ما يشغلهم في معيشتهم اليومية عن ملاحقة ذلك الملف الذي انتقل من اللجنة الملكية الى الحكومة وأخيرا استقر في مجلس النواب بعد أشهر من الأخذ والرد والحذف والإضافة. كما انهم ينظرون بعين اللامبالاة نحو مشروع الاصلاح السياسي برمته، وفقا لاستطلاعات الرأي.
إذا أرادت السلطة الإصلاح فعلا وإشراك الناس في حكم أنفسهم، فلا بد من شواهد أو تمهيدات، وليس أدعى من هذا التوقيت لرفع كل القيود المفروضة على الحريات العامة وإلغاء العمل بقانون الدفاع الذي فهم الأردنيون تماما الغاية من فرضه.