فلسطين في حاجة إلى أن تُستعاد عربيا

ينبغي أن لا يُسمح للعربدة الإسرائيلية في أن تكون بديلا للحقيقة.

فجأة صحا العالم على حقيقة حرب غزة. حرب تشنها واحدة من أكبر آلات الحرب على شعب أعزل بحجة محاولة القضاء على تنظيم مسلح استطاع أن يسبب لها الجنون بسبب رداءة عمل أجهزتها الاستخبارية التي هي من أكثر الأجهزة كفاءة في العالم. دورة عنف جديدة، لا أظن أن التنظيم الإسلامي في غزة، كان على يقين من أنها ستنتهي باستسلام آلة الحرب الإسرائيلية لشروطه وفي المقابل فإن ما يُسمى بجيش الدفاع الإسرائيلي صار على يقين بعد أن تجاوزت حربه على المدنيين المائة يوم، وهو سقف زمن سيكون مفتوحا كما يبدو ولم يفكر فيه أحد من قبل من أنه سيحقق هدفه في اجتثاث التنظيم الإرهابي حسب التسمية الأميركية من جذوره. وهو ما يمكن أن يقود إلى أن تلك الحرب قد عصفت بالعالم، من غير أن تكون هناك شروط يقبلها المنطق لإنهائها.

هي حرب عبثية، وقودها شعب لا يملك ما يخسره بعد أن وضعته إسرائيل في أسفل طبقة من طبقات الهلاك. وليس صحيحا أن موقف السلطة الفلسطينية يمثل الفئات المعتدلة من الشعب الفلسطيني بالرغم من أن العنف هو سمة الإسلام السياسي الذي تمثله حركة حماس وهو لا يمت للقضية الفلسطينية بصلة تاريخية. فالإسلام السياسي له أهدافه التي تقع خارج مسار القضية الفلسطينية وليس في الإمكان العثور على عوامل مشتركة ما بين ما يرغب الإسلاميون في تحقيقه وبين ما كان الفلسطينيون يسعون إلى الوصول إليه عبر سنوات نضالهم الوطني، المسلح والسلمي على حد سواء. جبهتان تناقض أحداهما الأخرى ولا تلتقيان. وليس صحيحا القول إن الأمر يستوي بالنسبة لإسرائيل.

إسرائيل تعرف ما الذي جرى على الجبهة الفلسطينية. كان لها يد في كل ما شهده الفلسطينيون في المرحلة التي تلت إتفاق أوسلو من تمزق في النسيج السياسي، كان هروب حماس بعزة وفك ارتباطها بحكومة رام الله واحتكار تمثيل شعبها وإشعال الحروب بإسمه وتحت شعار الدفاع عن قضيته واحدا من أهم مظاهر التدخل الإسرائيلي في الشأن الفلسطيني. فلولا استضعاف إسرائيل للسلطة الفلسطينية الذي بدأ بالحصار الذي فُرض على الرئيس ياسر عرفات في مقاطعته واجتياح القوات الإسرائيلية لأراضي السلطة الفلسطينية لما كانت حماس موجودة ولما قويت شوكتها ولما حصلت على الغطاء الشعبي الذي جعلها تشعر وبغرور أنها قادرة على أن تفعل ما تشاء من غير العودة إلى المرجعية الوطنية الفلسطينية التي صارت حسب الشائعات مجرد واجهة للإحتلال الإسرائيلي.

كل حروب غزة التي دفع المدنيون ثمنها لم تكن حلما فلسطينيا، فهي لم تحرك القضية الفلسطينية سنتمترا واحدا إلى الأمام إذا لم تكن قد دفعتها إلى الوراء وسلبتها الكثير من المعاني المقدسة. غير أن الأهم من ذلك أن تلك الحروب قد زادت من عزل غزة وصنعت بينها وبين فلسطين حاجزا صلبا لا يمكن اختراقه بالشعارات والكلام المتداول والأمنيات. أما الشعب الفلسطيني الذي يُذبح في تلك الحروب فلم يكن إلا ضحية لخرافة أن تكون غزة إمارة إسلامية، تتزعمها حركة لا تعتز بمرجعية عربية بل تشهر في كل مناسبة عن مرجعيتها الإيرانية. وهو ما يعيد تعريف هوية القطاع السليب الذي انتقل من التبعية المصرية إلى الاحتلال الإسرائيلي لينتهي إلى الاحتلال الإيراني المُقنَع. فما حركة حماس سوى تنظيم إيراني، عبر زعيمه في الكثير من المناسبات عن اعتزازه بذلك الارتباط.

ما صحا عليه العالم لا يمثل إلا جزءا من الحقيقة التي كان علينا أن نصحوا عليها. فإسرائيل التي تقوم بإبادة الشعب الفلسطيني في غزة كانت قد خدعت العالم بأنها تحارب تنظيما إرهابيا من غير أن تعترف طبعا بمسؤوليتها عن تزويد ذلك التنظيم بالأموال التي ساعدته على بناء مدينة تحت الأرض فيما كانت المجاعة تضرب أهل غزة بين حين وآخر، فكانت الإغاثة ضرورية لكي يبقى ذلك الشعب على قيد الحياة. معادلة أعتقدت إسرائيل أنها من خلالها ستتمكن من ضبط الشأن الفلسطيني من غير الوصول إلى مرحلة الحل النهائي الذي يتمثل بحل الدولتين. غير أن دخول إيران إلى الملعب أفسد على إسرائيل اللعبة.

أكثر من مئة يوم من الإبادة التي يتعرض لها شعب غزة تكفي لكي نصحو. فلسطين في حاجة إلى أن تُستعاد عربيا. هناك مبادرة عربية ينبغي أن تُطرح مرة أخرى في المحافل الدولية وينبغي أن لا يُسمح للعربدة الإسرائيلية في أن تكون بديلا للحقيقة. هناك شعب في انتظار أن يقيم دولته الوطنية التي لا علاقة لها بالإسلام السياسي وليست حرب غزة حلا، بل صفحة جديدة تُضاف إلى صفحات المأساة.