فوزية العشماوي وعالم المرأة في أدب نجيب محفوظ
يرصد كتاب الباحثة الدكتورة فوزية العشماوي "المرأة في أدب نجيب محفوظ" مظاهر تطور المرأة والمجتمع في مصر المعاصرة من خلال روايات نجيب محفوظ أثناء السنوات 1945 – 1967، والكتاب يعد أول رسالة دكتوراه في جامعة أوروبية عن نجيب محفوظ، كما يعد من أوائل الكتب التي صدرت باللغة الفرنسية عن نجيب محفوظ، وقبل خمس سنوات من حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1988.
وتتذكر الباحثة أنها أثناء إعداد الرسالة التقت الأستاذ لمناقشة بعض المسائل المتعلقة بحياته ومؤلفاته لإعداد الرسالة عنه، وخلال المناقشة في صيف 1979 في مقهى "بترو" بالإسكندرية، وفي حضور الكاتب الكبير توفيق الحكيم، أخبرت محفوظ باحتمالية حصوله على جائزة نوبل للآداب، فضحك محفوظ ضحكته المنطلقة وأجابها باستغراب – وهو لا يزال – يضحك – إن كانوا لم يعطوها لطه حسين ولا لتوفيق الحكيم، فكيف يعطونها لي؟ وصدق حدس فوزية العشماوي وحصل محفوظ على الجائزة.
وترى الباحثة أن نجيب محفوظ جاء في الأربعينيات ليأخذ بيد الرواية المصرية ويخرجها من تعثرها ويجعلها في ظرف أربعة عقود تغزو العالم كله في مختلف اللغات الشرقية والغربية بعد أن حصل على أكبر جائزة أدبية في العالم.
وتؤكد أن نجيب محفوظ الروائي لا يخضع لأي تصنيف، فهو يشبه النحات الذي يتعامل دائما مع نفس الطينة ليعطيها أشكالا مختلفة؛ وهذه الطينة التي يشكلها الروائي بمهارة هي المجتمع المصري المعاصر.
أما المرأة في الرواية المصرية، فهي ترى أن قبل نجيب محفوظ كانت المرأة تصور على أنها رمز للجنس أو على أنها مخلوق جميل يثير العواطف سواء النبيلة أو الخبيثة، وكانت تصور على أنها منبع للحب والحنان دون أن يكون لها كيان مستقل. وتضرب مثالا برواية "زينب" لمحمد حسين هيكل، حيث كانت المرأة تبدو ضعيفة وخاضعة دائما لرجل يحميها أو يستغلها، أي أنها دائما تحت حماية الرجل الدائمة.
نجيب محفوظ نجح في جعل القارئ ينتقل من الشخصية الروائية إلى المرأة الحقيقية التي تجسدها الشخصية الروائية وتعبر عنها بصدق في جميع مراحل حياتها
أما الأمر عند نجيب محفوظ فقد اختار لرواياته وقصصه نساء عاديات، معظمهن، من الطبقة المتوسطة، لهن مشاكل عادية، ولكنها حقيقية وواقعية عاشتها كل امرأة في مصر خلال الفترة التي يتناولها البحث، لذا جاءت شخصياته الروائية النسائية صادقة ومطابقة للواقع الاجتماعي.
ولاحظت العشماوي أن المرأة في معظم روايات محفوظ هي المحور التي تدور حوله الأحداث الرئيسية، حيث يضع محفوظ المرأة وسط المشكلة التي يريد أن يعالجها في روايته وتشترك كل الشخصيات الأخرى معها في عرض المشكلة بأبعادها المختلفة، ومحاولة إيجاد الحلول المختلفة لها.
وقد توقفت فوزية العشماوي في رسالتها عند روايات: القاهرة الجديدة (1945) خان الخليلي (1946) زقاق المدق (1947) السراب (1948) بداية ونهاية (1949) الثلاثية (1956 – 1957) اللص والكلاب (1961) السمان والخريف (1962) الطريق (1964) الشحاذ (1965) ثرثرة فوق النيل (1966) ميرامار (1967).
وترى الباحثة أن نجيب محفوظ – في معظم رواياته - لا يهتم إلا بالشاردات من النساء، ويجعل من كل امرأة شاردة بطلة لرواية من رواياته تدور حولها الأحداث وتجري خلفها كل الشخصيات في محاولة لإعادتها إلى العقل أو إلى العرف الاجتماعي السائد، وغالبا ما تفشل كل الجهود، وتنتهي الرواية بمأساة، وهذا ما حدث على سبيل المثال لحميدة، بطلة "زقاق المدق".
وتتوقف الباحثة عند كل شخصية من الشخصيات النسائية في عالم روايات نجيب محفوظ خلال فترة البحث، فنرى نفيسة في "بداية ونهاية"، محددةً الإطار النفسي لشخصيتها، والمسار الروائي من خلال الدوافع النفسية والاجتماعية، ومرحلة الانتقال من الجمود إلى الفعل، ونهاية المسار. وتخلص إلى أن شخصية نفيسة تعتبر أفضل نموذج روائي للمرأة المصرية من الطبقة المتوسطة التي تجسد حياة تلك الطبقة وأزمتها الاقتصادية الطاحنة خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين.
ثم تتوقف عند نور بطلة "اللص والكلاب" وهي امرأة بغي من الطبقة الشعبية في الخمسينيات، وتبرز الإطار النفسي لتلك الشخصية، والمسار الروائي، وما يحتويه من دوافع نفسية واجتماعية، وتوضح أن محفوظ نجح في رسم شخصية نور بأسلوب اعتمد فيه على الرمز وتدفق الذكريات عن طريق الاسترجاع في تيار الوعي (فلاش باك) وهذا الأسلوب الجديد الذي يوحي بالغموض وبعدم وضوح الرؤية يتناسب مع شخصية المرأة البغي التي تحيط نفسها بالغموض وتتخفى وتتنكر حتى لا ينكشف أمرها في مجتمع يدين البغاء.
ثم تتوقف عند زُهرة بطلة "ميرامار" وترسم الإطار النفسي لشخصيتها، والمسار الروائي والدوفع والانتقال من مرحلة الجمود إلى الفعل، ونهاية المسار. ثم تتحدث عن زُهرة الفلاحة الأصيلة باعتبارها رمز مصر، وموقفها من العهد البائد قبل الثورة، وموقفها من الأوروبية المتمصرة مريانا، وموقفها من الإقطاعي السابق طلبة مرزوق، ومن ممثل الشعب، الصحفي الوطني، عامر وجدي، ومن ممثلي شباب مصر بعد ثورة 1952، سليل الأرستقراطية العابث حسني علام، وممثل التيار الشيوعي منصور باهي، وممثل التيار الاشتراكي سرحان البحيري.

وتخلص الباحثة د. فوزية العشماوي إلى أن نجيب محفوظ – على عكس رواد الرواية المصرية المعاصرة – نقل حياة الشارع المصري بواقعية شديدة ورسم شخصياته رسما طبيعيا يماثل الواقع بحيث يخيل للقارئ أنه رأى هؤلاء الرجال والنساء قبل ذلك وعرفهم، وهذا سر تلك الأصالة المصرية التي يتميز بها الفن الروائي لنجيب محفوظ، وربما يرجع ذلك أيضا إلى أن نجيب محفوظ عاش طوال حياته في القاهرة، ولم يغادرها إلا فيما ندر للذهاب إلى الإسكندرية التي يعشقها، وإلى أنه لم يسافر للخارج إلا مرتين في حياته الطويلة (التي امتدت 95 عاما).
أما دور الشخصية النسائية في كل رواية من ورايات محفوظ، فهو إبراز التطور الاجتماعي وتصويره تصويرا دقيقا وتوضيح طبيعة العلاقات بين المرأة وبين أفراد المجتمع، وكيفية حدوث هذا التطور، وهكذا يشهد القارئ لروايات محفوظ من خلال الشخصية النسائية مراحل تطور المرأة في المجتمع المصري، وكيف تم خروج المرأة من مرحلة الخضوع التام للزوج وللعادات والتقاليد التي تمثلها أمينة في "الثلاثية"، وهي الزوجة المحجبة المعزولة عن المجتمع، المحبوسة في بيت زوجها، شبه الأمية التي تخضع لزوجها خضوعا تاما، إلى المرأة المتحرر المثقفة التي ترتدي أحدث الموضات الأوروبية والتي تصر على العمل خارج البيت وتتمسك بالوظيفة وبالعمل السياسي، وتمثل هذه المرحلة سوسن حماد في "الثلاثية"، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التحرر التام، أي المرأة التي تفضل عدم الزواج رغم جمالها وثقافتها، وتنضم لحزب سياسي، وتشارك الرجال في ندواتهم وجلساتهم السياسية للإعراب عن آرائها الحرة لمعارضة النظام السياسي القائم، وتمثل هذه المرحلة سمارة بهجت في "ثرثرة فوق النيل".
ومن خلال تحليل شخصيات ثلاث هي: نفيسة ونور وزهرة، حاولت الباحثة أن تظهر كيف نجح نجيب محفوظ في جعل القارئ ينتقل من الشخصية الروائية إلى المرأة الحقيقية التي تجسدها الشخصية الروائية وتعبر عنها بصدق في جميع مراحل حياتها، وكيف أن نجيب محفوظ اختار للتعبير عن ذلك منهجا روائيا مختلفا، ومذهبا أدبيا من المذاهب الروائية يتناسب مع الشخصية الروائية أكثر ويناسب أوضاع المجتمع وظروف المرأة المصرية التي يريد تصويرها في كل رواية من الروايات الثلاث.
كما تؤكد العشماوي أن زهرة تعتبر أول فلاحة في الإنتاج الأدبي لنجيب محفوظ تحصل على هذا الاهتمام، وتحتل دور البطولة في رواية من رواياته. ومن المعروف أن الكاتب لم يهتم بفئات العمال والفلاحين في إنتاجه الأدبي إلا فيما ندر، وركز اهتمامه أكثر على "الأفندية" من الطبقة المتوسطة الذين يعيشون في القاهرة حيث تدور معظم رواياته، وشخصية زهرة هي الاستثناء.
وقد سألت الباحثة في لقاءاتها بنجيب محفوظ أثناء إعداد رسالتها: هل هناك شخصية نسائية في إنتاجك الأدبي تصور المرأة كما ترونها؟ فأجاب الأديب الكبير: نعم، شخصية زهرة بطلة "ميرامار".