فوكوياما ومستقبلنا ما بعد البشري

كتاب 'عواقب ثورة التقنية الحيوية' قد يبدو قفزة هائلة بالنسبة إلى شخص أصبح في السنوات الأخيرة مهتما بصورة أساسية بقضايا الثقافة والاقتصاد.

"قد يبدو تأليف كتاب عن التقنية الحيوية قفزة هائلة بالنسبة إلى شخص أصبح في السنوات الأخيرة مهتما بصورة أساسية بقضايا الثقافة والاقتصاد، لكن في الحقيقة هناك منهج لهذا الجنون."

هكذا يبدأ فرانسيس فوكوياما مقدمة  الكتاب الجديد "مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية"، الذي ترجمه إيهاب عبدالرحيم محمد، وصدرت الترجمة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بأبوظبي، ووقعت في 308 صفحات.

وإذا كان فوكوياما قد قال مقولاته الشهيرة عن "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، في كتابه الذي يحمل نفس العنوان، فإنه في كتابه الجديد يرى أنه لا يمكن أن تكون هناك نهاية للتاريخ ما لم تكن هناك نهاية للعلم.

وإذا كانت التقنيات الحديثة في أواخر القرن العشرين، مثل ما عرف بثورة المعلومات، تفضي على نحو جيد إلى انتشار الديمقراطية الليبرالية، فإننا من ناحية أخرى مازلنا بعيدين تماما عن نهاية العلم، لذا يرى فوكوياما أننا نبدو وسط فترة بالغة الأهمية في التقدم في علوم الحياة.

لقد بدأ الرجل يفكر في تأثير علم الأحياء الحديث في فهمنا للسياسة، ونتج عن ذلك مجموعة دراسية عن تأثير العلوم الجديدة في السياسة الدولية، قام بتدريس مساقها لسنوات عدة، وانعكست بعض أفكاره المبدئية حول هذا الموضوع على كتابه "التمزق الكبير" الذي تناول مسألة الطبيعة والأعراف البشرية، وكيف أن فهمنا لهما تشكل بفعل المعلومات التجريبية الجديدة المستمدة من فروع علمية مثل الإثولوجيا (وهي الدراسة المقارنة للسلوك الحيواني في بيئته الطبيعية، وتعنى بتطور السلوك، ووظيفته، وتاريخه التطوري) والأحياء التطورية والعلوم العصبية الإدراكية.

وعلى ذلك يبدأ فوكوياما في التفكير في المستقبل بطريقة أكثر نظامية عمَّا قاله عن "نهاية التاريخ"، فيكتب مقالا نشره عام 1999 بعنوان "استدراك: آخر البشر في زجاجة"، ويُعد الكتاب الجديد عن مستقبلنا بعد البشري، توسعًا مستفيضًا في الموضوعات التي طرحها لأول مرة في المقال المذكور.

وعلى ضوء أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 يرى أن العلم والتقنية، وهما أساس العالم الحديث، يمثلان أهم مواطن الضعف في حضارتنا، فقد تحولت الطائرات التجارية وناطحات السحاب ومختبرات الأحياء، وجميعها من رموز الحداثة، إلى أسلحة في لحظة، يصفها بأنها "لحظة إبداع خبيث"، ومن ثم يرى أن هناك حاجة إلى تحكم سياسي أكبر في استخدامات العلم والتقنية.

قسَّم فوكوياما كتابه إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأول تحدث فيه عن السبل المؤدية إلى المستقبل، وقسمه إلى ستة فصول، الأول يتحدث عن قصة مدينتين غير فاضلتين، ويشير فيه إلى كتابين اثنين كانا أكثر استشرافًا للمستقبل، وهما: "1984" لجورج أورويل الذي نشر لأول مرة عام 1949، و"عالم شجاع جديد" لألدوس هكسلي الذي نشر عام 1932. وفي هذا الفصل يتحدث عن التقنية الحيوية واستئناف التاريخ من جديد.

وتحدث في الفصل الثاني عن علوم الدماغ، وأشار إلى ثورة في العلوم العصبية الإدراكية، وتوراثية الذكاء، وعلم الوراثة والجريمة، والجينات والنشاط الجنسي المتغاير والمثيل.

وفي الفصل الثالث يتحدث عن علم الأدوية العصبية والتحكم في السلوك، بينما يتحدث في الفصل الرابع عن إطالة الحياة، وفي الخامس عن الهندسة الوراثية والطريق إلى أطفال حسب الطلب.

أما الفصل السادس والأخير من الجزء الأول فكان عنوانه "لماذا علينا أن نقلق؟" مشيرا إلى الاعتبارات الدينية، والاهتمامات النفعية، والصائب سياسيا، والإذعان للطبيعة، وأوجه القصور النفعية.

بينما حمل الجزء الثاني عنوان "أن نكون بشرا"، وقسمه إلى ثلاثة فصول تحدث فيها عن حقوق الإنسان وضرورتها، والطبيعة البشرية، وما هو ضد الطبيعة، والخصيصة البشرية وحقوق الحيوان، والكرامة الإنسانية، ومتى نصبح بشرا؟

بينما تناول الجزء الثالث والأخير سؤالا يقول "ماذا نفعل؟" وتكمن الإجابة في الفصول الثلاثة التي تشكل هيكل هذا الجزء، ولعل الإجابة تكون في التحكم السياسي في التقنية الحيوية، وبالتالي نتساءل مَنْ عليه اتخاذ القرار، وهل يمكن التحكم في التقنية؟

بينما يجئ الفصل التالي بسؤال آخر وهو: كيف يتم تنظيم التقنية الحيوية اليوم؟ مُشيرا إلى قواعد التقنية الحيوية الزراعية، والتقنية الحيوية البشرية، واضعا سياسات للمستقبل مثل: التشخيص والتحري قبل الانغراس، هندسة الخط الجنسي، صنع الخيمر باستخدام جينات بشرية، واستخدام أدوية جديدة نفسانية التأثير، ولكن يجب أن تكون هناك خطوط حمراء على هذه الاستخدامات، فأين نرسم الخطوط الحمر إذن، ليبدأ التاريخ ما بعد البشري؟