فيلسوفة الإسكندرية هيباتيا بين 'الحلم والمصير'

الباحثة أمنية فتح الله تتساءل في كتابها الصغير عما دار في خَلَد (فيلسوفة الإسكندرية) هيباتيا حينما تخطَّفتها أيدي الغوغاء من قاعات العلم إلى مصيرها الأليم؟

"ترى ماذا كان يدور في خَلَد (فيلسوفة الإسكندرية) هيباتيا حينما تخطَّفتها أيدي الغوغاء من قاعات العلم إلى مصيرها الأليم؟ هل غلبَها علمُها الرياضي، فحاول عقلُها المُنهك أن يحسب عدد خطى هؤلاء الذين ركضوا بها يسحلون جسدها الرقيق الهزيل عبر شوارع الإسكندرية؟ هل حاولت أن تتحسَّس سرعتهم؟ هل تمنت قياس المسافات من شارع لآخر عساها تعرف متى سوف تصل إلى ساحة إعدامها لتلقى الموت المحتوم، فينتهي هذا العذاب الرهيب الذي يحاصرها من كل اتجاه؟ أم عساها استغرفتْ في عقيدتها الوثنية التي ظلت مستمسكة بها حتى آخر رمق، شاردة الذهن تتوهم أن تمنحها آلهة اليونان، عِوضًا عن هذا الجنون المُميت، مكانًا خالدًا بين النجوم والأفلاك التي أفنت حياتها في دراستها وتأملها؟".

هكذا تتساءل الباحثة أمنية فتح الله في نهاية كتابها الصغير "هيباتيا الحلم والمصير" الذي صدر مؤخرا عن سلسلة "تراث الإنسانية للنشء والشباب" التي تصدرها مكتبة الإسكندرية.

وتجيب فتح الله: أيًّا كان ما يدور بوجدان هذه البائسة، فمن المؤكد لنا أنه في هذا اليوم التعيس، وهذه اللحظة المؤلمة من تاريخ الإنسانية، صُرع العقل والإبداع بمقامع الجهل والقسوة والتعصب.

في بداية الكتاب تتحدث الباحثة عن مسقط رأس هيباتيا وهي "الإسكندرية المُبهرة" التي أسسها الإسكندر الأكبر في السابع من أبريل عام 331 ق. م وظلت حاضرة مصر والعالم القديم لألف عام، وحتى الفتح العربي لمصر في عام 642 م.

وترى أمنية فتح الله أن الإسكندرية دائمًا جميلة .. مبدعة .. ساحرة .. تقبع إلى الغرب قليلا من شمال مصر. أسموها قديمًا "الإسكندرية .. المُتاخمة لمصر"، وكأن الوجدان اليوناني الروماني قد آثر أن يراها عالمًا متكاملا في ذاته، مُتفردًا بإبداعه، مُتميزًا بجماله الذي لا يضاهيه جمال.

إنها المدينة التي عشقها كل من عاش فيها، أو مرَّ بها، أو حتى سمع عنها. الإسكندرية مدينة السحر والثراء والفخامة والعلم والمعرفة.

وتؤكد الباحثة بمكتبة الإسكندرية أن "مواطنة الإسكندرية" كانت ميزة رفيعة لحامليها بين المدن الهلينستية، وداخل مصر نفسها، سواء إبان الحكم البطلمي أو حتى بعد أصبحت مصر ولاية رومانية، وخضعت الإسكندرية للحكم الروماني كعاصمة لتلك الولاية، فأن تكون "سكندريًّا" هذا شرف كبير وهامة عالية.

وتوضح الباحثة أن الإسكندرية ظلت منذ نشأتها زاخرة بمختلف أنواع الإبداع العلمي والأدبي والفكري والفني، وكانت لها مدارسها وبصماتها في كل مجال من تلك المجالات الخلاقة. وهي لم تكن مدينة عالمية (كوزموبوليتانية) من حيث مكونها السكاني فقط، ولكن بمكونها الفني والعلمي والأدبي أيضًا. وفي هذه الأجواء أمدَّنا رحمُ الإسكندرية بهذه الفتاة الجميلة الذكية المتقدة حيويةً وعلمًا، هيباتيا، فكانت إحدى فلتات الإسكندرية في حقبة من حقب الأفول والانحسار.

وترى فتح الله أن هيباتيا، أسطورة تراجيدية بكل ما في الكلمة من معنى. تدرجت حياتُها صعودًا إلى أعلى قامات العلم الرفيع، ونشأتْ في رحاب العلوم والفلسفة والفكر، فأبدعتْ وبلغتْ ذُرًى من العلم والمعرفة ربما لم تبلغها امرأةٌ قبلها في العالم القديم، ووُهبت جمالا خلابا استحوذ على قلوب تلاميذها ومريديها وكل من عرفها واقترب منها، ثم هوت إلى مصارع الجهل والتعصب والعنف، فقتلت على نحو ربما لم يشهده أحدٌ قبلها، رجلا كان أم امرأة.

ونحن لا نعلم كثيرًا عن طفولة هيباتيا ولا عن نشأتها المبكرة حتى مرحلة نضجها العلمي والفكري. وتشير الباحثة إلى أن هيباتيا ولدت في الإسكندرية ما بين عامي 370 و355، والتاريخ الأول مؤداه أنها كانت تبلغ من العمر 45 عامًا حينما واجهت حدث مقتلها، والثاني يشير إلى أنها كانت عندئذ تبلغ من العمر 60 عامًا. وترجح المؤرخة البولندية ماريا دزيلسكا التاريخ الأخير لمولد هيباتيا. وما تؤكده المصادر أن فيلسوفة الإسكندرية آثرت أن تبقى عذراء دون زواج طيلة حياتها، سواء خلال مرحلة تعليمها وتتلمذها على يدي والدها (ثيون السكندري) أو بعد أن أصبحت عالمة متمكنة سيدة مجتمع ومعلمة لها مدرستها العلمية، ولها مساهماتها الفكرية والثقافية الواسعة، حتى لقيت مصرعها.

وتؤكد المصادر القديمة وكتابات المؤرخين أن هيباتيا عاشت حياتها كاملةً في الإسكندرية، فلم تغادرها يومًا لأي سبب. وأنها تتلمذت على يد والدها ثيون السكندري عالم الرياضيات والهندسة والفلك والفلسفة والذي كان آخر أعضاء الموسيون (مجمع الإسكندرية العلمي المرموق) والذي يُعتقد أنه توفي حوالي 400. وبذلك يكون قد شهد الدمار الأخير للموسيون (دمار معبد السرابيوم في 391 ما يعني تدمير معالم الوثنية في الإسكندرية، وتدمير ما تبقى من مكتبة الإسكندرية القديمة)، ولكنه لم يشهد مصير ابنته الأليم حين لقيت مصرعها عام 415.

وتؤكد الباحثة أن كل من ثيون السكندري وابنته هيباتيا كانا حلقة مهمة في انتقال علوم الإسكندرية التي ظهرت في أوج ازدهار المدينة العلمي في العصرين البطلمي والروماني إلى العصور التالية، فقد درس ثيون أعمال عالِم الرياضيات والهندسة الشهير إقليدس، واهتم بدراسة أعمال عالِم الفلك والجغرافيا والرياضيات السكندري كلوديوس بطليموس، وأعد تعليقًا على قصيدة "الظواهر" للفلكي اليوناني أراتوس. كما درس المرايا وانعكاس الضوء. وكانت تساعده ابنته هيباتيا التي لم يقتصر دورها على إعداد ومراجعة بعض طبعات كتب والدها، وإنما شاركت بالتحقيق أيضا، وخاصة لكتاب "المجسطي" لبطليموس، كما كتبت عملا بعنوان "الجداول الفلكية" وغيرها من الأعمال والإنجازت التي تؤكد الباحثة أمنية فتح الله أنها فُقدت تماما (ومعظم أعمال والدها أيضًا) فلم يبق منها سوى القدر اليسير جدا، وعلى نحو مشتت وغير متكامل. وعلى الرغم من ذلك فقد كانت أعمالهما حلقة مهمة من حلقات انتقال الحضارة والمعرفة العلمية عبر المراحل المتتابعة من تاريخ البشرية، من الحضارات القديمة إلى زمننا هذا.

وعلى العكس من كليوباترا السابعة التي تزوجت من يوليوس قيصر، ومارك أنطونيو، حرصت هيباتيا على عدم الزواج، وعلى أن تظل عذراء دون أي ارتباط بالرجال، لتظل فكرة كونها رمزًا للطهر والعفة والترفع والزهد. إنها كانت تقوم بتدريس العلوم اليونانية بالطريقة التقليدية التي كانت متَّبعة في عصور الازدهار العلمي بالإسكندرية، حيث كان العلم يُمارس ويُدرَّس في قالب من التقديس لربات الفنون اليونانية القديمة، وكانت ممارسة العلم، في جوهرها، ما هي إلا تعبُّد لربات الفنون وآلهة الإلهام اليونانية والرومانية. لقد طبعت حضارة الإسكندرية بصبغتها اليونانية بصمتها العميقة داخل وجدان وكيان هيباتيا، فكانت تجسيدًا صريحًا للموروث الثقافي اليوناني قلبًا وقالبًا، سواء كان ذلك في الجانب العلمي أو الاجتماعي أو الفلسفي العقائدي. بالإضافة إلى تدريسها للفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي كانت تنتمي إليها وإلى مؤسسها أفلوطين، في مختلف المحافل بكثافة، على نحو أثار حفيظة رجال الدين المسيحي والعامة على السواء، الأمر الذي أصبح مرفوضًا وغير محتمل على الإطلاق من جانب التيار المسيحي الميهمن على المشهد خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين. فما كان مقبولا من قبل، في زمن ما، لم يعد محتملا قط آنذاك.

لقد أشاعوا أن هيباتيا تمارس الشعوذة والسحر، وأنها تخدع الشباب بفكرها الوثني البغيض، وأنها السبب في تأجيج الخلاف والعداوة بين فئات المجتمع، وأنها أسهمت في تعميق التباعد ما بين الوالي الروماني والبابا كيرلس وجَعْل التقارب بينهما مستحيلا.

لذا يُروى أن مجموعة من عامة القوم من السكندريين لهم انتماء وثيق بكنيستها، استقر عزمهم على قتل هيباتيا، لوضع حد لدورها المحرِّض في المدينة على نحو ما ارتَأوا، فقاموا باعتراض طريق عربتها، بمجرد خروجها من بيتها كعادتها، فجرُّوها من العربة إلى الشارع، ثم ظلوا يجرونها في شوارع الإسكندرية مُنكلين بها عبر طرقاتها حتى وصلوا إلى ساحة كاتدرائية القيصريون التي كانت تطل على الميناء الشرقي (وأرجحُ أن يكون هذا المكان الآن هو محطة الرمل) وكانت هي الكنيسة الرئيسية في الإسكندرية آنذاك.

وتوضح الباحثة فتح الله أنه وفق هذه الرواية، فعند وصولها إلى ساحة المعبد، قاموا بتجريدها من ملابسها، كما قاموا بفقء عينيها، ثم ظلوا يرجمونها بالحجارة حتى الموت، وبعد أن فارقت الحياة، حُمل جثمانها إلى مكان خارج المدينة، حيث تم إحراقه تمامًا.

يذكر أن الباحثة أمنية منير فتح الله – أخصائي بحوث بقطاع البحث الأكاديمي بمكتبة الإسكندرية - رجعت إلى العديد من المراجع العربية والأجنبية لإنجاز بحثها المكثَّف عن هيباتيا الحلم والمصير، ومن هذه المراجع العربية: كتاب "هيباشيا فيلسوفة الإسكندرية" لإمام عبدالفتاح إمام، وموسوعة الفلسفة لعبدالرحمن بدوي، وكتاب مكتبة الإسكندرية القديمة: سيرتها ومصيرها لمصطفى العبادي، وكتاب "مأساة التنوير مقتل هيباشا الجميلة" لمحمد علي الكردي، وكتاب "هيباتيا أول فيلسوفة مصرية" لمحمد غنيمي هلال.