في انتظار ما لا يمكن أن يقع

ما فعلته حماس لا يستحق أن يؤسطر وما فعله الجيش الإسرائيلي أشد سخافة من ان يدخل التاريخ.

يفكر البعض في أن تكون حرب غزة فاتحة لإعادة النظر في العقدة المستعصية التي تقف بين الدولة الفلسطينية وإمكانية تحولها إلى واقع. ذلك تفكير خيالي، تتراجع فيه الحقيقة أمام الأوهام. فالثمن الذي دفعه أهل غزة أكبر من أن يُعوض بالأوهام. لقد سقط عشرات الألوف من القتلى إضافة إلى الجرحى والمشردين ومَن لا يملكون أملا في مستقبل أفضل. بالنسبة لهم صار المستقبل خرافة. أما الواقع الذي يعيشون تفاصيل كابوسه فإنه ليس جزءا من حياة متوقعة. كان يمكن أن تمر الحياة بكل صعوباتها من غير أن تكشف عن الشر الذي يختبئ بين سطورها.

حياة أهل غزة كانت هي الثمن الذي تسلى الوهم من خلاله في صنع حكاية متخيلة عما يمكن أن يحدث في زمن ما بعد الحرب. "وهل ستنتهي الحرب حقا؟" يظن المتفائلون أنهم أذكياء حين يقولون "كل حرب لها نهاية" ولكن الموت يقول شيئا آخر. بالنسبة للموتى فإن الحرب قد انتهت. أما أقرباؤهم فإنهم سيتحملون عبئا ثقيلا هو عبء ذلك الغياب الذي يصنع حضوره مسافة تفصل بين فلسطين الحية وفلسطين التي تمت التضحية بها من أجل قضية لا تمت لها بصلة. هل كانت هناك خيانة مبيتة؟ لو لم يكن الأمر كذلك لما توسلنا من أجل أن توافق إسرائيل على وقف الحرب، وهي فضيحتها على المستوى الأخلاقي. ولكن متى كانت إسرائيل تهتم بالجانب الأخلاقي في حروبها؟

"لقد نسينا القتلى" لن يقول أحد ذلك. ولكن الحقيقة تفضح ما لا يُقال. الدولة الفلسطينية لا يمكن أن تُقام على كذبة. فعلت حركة حماس ما كانت تتوقع أن يقود إلى حرب شاملة تشنها إسرائيل من طرف واحد. أما كيف تقود تلك الحرب الهمجية إلى قيام الدولة الفلسطينية فإنه أمر يعود إلى عالم الخرافة الذي يعرف أتباع حماس ومناصروها أن أبوابه لا تزال مفتوحة أمام مَن يؤمنون به. كان شعار "لن ننسى القتلى" كاذبا. لقد مُحيت حياة الكثير من البشر ولم يبق أي أثر منها في ظل الشعارات التي تبين في ما بعد أنها كانت كاذبة. لسنا في زمن اختراع الأساطير. ما فعلته حماس لا يستحق أن يؤسطر وما فعله الجيش الإسرائيلي أشد سخافة من ان يدخل التاريخ. فلا حركة حماس كانت راغبة في التذكير بالقضية الفلسطينية ولا إسرائيل كانت مضطرة لمحو الحياة في مدينة، تعيش على فضلاتها.

شيء من اللامعقول أدى إلى أن تكون الحرب واقع حال. فغزة التي غامرت بها حماس في سبعة حروب كانت أشبه بهامشها. فهي مدينة هامشية. زادتها حركة حماس تهميشا. فهي لا تُدار سياسيا واقتصاديا وخدميا من قبل فلسطينيين يملكون صلات طبيعية مع العالم الخارجي. ذلك لأن حركة حماس حين هربت بها فصلتها عن فلسطين ولم يكن ذلك الفصل ليسمح لها باستعادة هويتها أو تكوين هوية جديدة لها. لقد حكمت حركة حماس على غزة بالضياع. حتى يمكن القول أن غزة مدينة غير منتمية بالرغم من أن أهلها فلسطينيون ولم يتخلوا عن هويتهم. وذلك ما يتناقض مع الصورة التي انتهوا إليها حين صارت حماس تنتقل بهم من حرب إلى أخرى من غير أن تكون لهم مصلحة في تلك الحروب.

أعرف أن فلسطينيي حماس أقلية، غير أنهم وقد صار السلاح لغتهم في مواجهة الآخرين لم يعودوا ملزمين بالنظر إلى الوراء حيث صارت القضية الفلسطينية بمثابة لوح خشبي طاف في بحر لا اسم له. لقد تم تمييع الكثير من الثوابت الوطنية الفلسطينية من أجل أن تحل محلها مرتكزات وعناصر ومنطلقات قضايا لا يمكن أن تتيح للفلسطيني فرصة التعرف على حقيقته وحقيقة ما جرى ويجري له. ومثلما حل الضياع بغزة أقتيد أهلها إلى ضياع أشد ضراوة.

ما لا يمكن توقعه أن يتساءل القتلى عن معنى القتل الذي تعرضوا له من غير أن تكون له قيمة تُذكر على مستوى خدمة القضية الفلسطينية. سواء تم التذكير بالشهداء من غير أسماء أو جرى نسيانهم فإن الأمر سواء. لقد تمت التضحية بهم من غير أن يكونوا جزءا من العالم الوهمي الذي صنعه فلسطينيو حماس وسواهم من رافعي شعر الحرب الدائمة تحت المظلة الإيرانية.

ستنتهي الحرب. لكنها لن تضيف إلى السجل الفلسطيني سوى مزيد من أرقام القتلى.