قصة وحشية عن الشهرة والقتل في 'موت مستحق'

موهبة رؤية يورن لير هورست وتوماس إنغر تنعكس في خلق شخصيات ذات مصداقية وجذابة، ليقدما عمقا إنسانيا يطل على تفاصيل الكثير من حياة وحركة شخصيات تتمتع بشهرة واسعة داخل المجتمع النرويجي.

تجمع هذه الرواية "موت مستحق" بين اثنين من أبرز كتاب الجريمة في النرويج أولهما يورن لير هورست وهو ضابط شرطة سابق. بدأ عمله في الأدب ككاتب جريمة عام 2004، ويعد حاليًا أحد أبرز كتاب الجريمة في دول شمال أوروبا. والثاني الكاتب توماس إنغر بدأ حياته الإبداعية بالتلحين وتأليف الموسيقي ثم أبدع في كتابة رواية الجريمة.

في هذه الرواية "موت مستحق" والتي تمثل الجزء الأول من سلسلة "ألكسندر بليكس وإيما رام" والتي صدر منها أربعة أجزاء حتى الآن، تتكامل رؤية الكاتبان حيث تنعكس موهبتهما في خلق شخصيات ذات مصداقية وجذابة، ليقدما عمقا إنسانيا يطل على تفاصيل الكثير من حياة وحركة الشخصيات التي تتمتع بشهرة واسعة داخل المجتمع النرويجي.

الرواية التي ترجمها عن الإنكليزية محمد أبو السعود وحررتها شروق طارق، وصدرت عن دار العربي، تشكل قصة وحشية عن الشهرة والقتل وتلفزيون الواقع، تدور أحداثها حول ملاحقة ضابط الشرطة "ألكسندر بليكس" والصحفية والمدونة "إيما رام" لقاتل مختل يتحدى المجتمع والقانون بجرائم يُخطط لها بشكل درامي؛ باحثًا عن الأنظار في كل مكان.

تختفي العداءة الشهيرة والبطلة الرياضية "سونيا نوردستروم" في ظروف غامضة وذلك في اليوم الذي من المقرر أن تعقد فيه حفل توقيع كتاب سيرتها الذاتية المثير للجدل "رقم واحد للأبد". تكتشف ذلك الصحفية "إيما رام" عندما تذهب إلى منزلها حيث من المقرر أن تجري مقابلة معها، لتجد الباب مفتوحًا ويبدو في الداخل أن هناك آثار صراع دامي حدث في هذا المكان، لترى رقم "واحد" مثبت على شاشة التليفزيون.

يحقق في قضية الاختفاء الضابط "ألكسندر بليكس" وهو شخصية ذكية وحساسية بالفطرة، ويتبع غرائزه في سلوكه في العمل. لقد عرّضت عقليته المدمنة للعمل علاقته مع زوجته وابنته للخطر. وهو الآن مطلق، ويعيش في شقة غير شخصية يقضي فيها أقل وقت ممكن. ومن جانب آخر ما زال يعاني من آثار الندوب العاطفية التي خلفها موقف الرهائن قبل تسعة عشر عامًا، عندما قتل والد فتاة تبلغ من العمر خمس سنواتـ، وبسببه شكلت القضية فارقًا في العمل الشرطي في النرويج بأكمله. وسرعان ما تظهر آثار "نوردستروم" في مواقع مختلفة ويتبعها وقائع شنيعة تقلب المجتمع رأسًا على عقب.

يلتقي بليكس بالصحفية المتحمسة، إيما رام، التي تريد الحصول على سبق صحفي خاص باختفاء "نوردستروم". يتردد بليكس في تسريب أي معلومات لها، لعدم رغبته في إثارة غضب كبار المسؤولين أو تعريض القضية للخطر، كما أنه اعتاد أن يكون مستقلا في تحقيقاته حتى يتمكن من إحراز تقدم في القضايا التي يحقق بها. لكن سرعان ما تتصدر شخصية رياضية أخرى عناوين الأخبار، وهو لاعب كرة قدم تم العثور عليه مقتولا في إحدى الشقق المملوكة للمرأة المفقودة. الأمر الذي يضطر بليكس إلى توحيد جهوده مع رام والعمل على متابعة جرائم القاتل ومحاولة الكشف عن عمليات قتل أخرى قبل وقوعها.

كل شيء في رواية الجريمة هذه يغني، العلاقة بين بليكس وإيما، وهي علاقة معقدة، ولكن أيضًا العلاقة بين بليكس وزملائه فوس وكوفيتش. الماضي ينزف في الحاضر والمزج الذكي لخيوط القصة والكشف البطيء عن التفاصيل التي تدفع القصة وهو أمر بارع. غالبًا ما تكون التفاصيل مفاجئة أو تتحول بطرق خفية لتكون ممتعة كونها تتجنب الكليشيهات.

مقتطف من الرواية

نزلت "إيما" بالقرب من محطة ترام "يومفروبراتون"، استغلت الوقت في الترام، وقامت بإجراء عدة اتصالات بأشخاص تعرفهم في تليفزيون القناة الثانية، علمت أنهم قد أرسلوا سيارة تاكسي لتقلَّ "سونيا نوردستورم" إلى مبنى التليفزيون في السابعة والثلث صباحًا، ومع القليل من البحث والتقصي تمكنت من معرفة اسم السائق ورقم هاتفه، "دانيال كڤام"، اتصلت به، ولكن تحولت المكالمة إلى البريد الصوتي، في الدقائق العشر الأخيرة من رحلة الترام تصفحت الفصول الأولى من كتاب: "رقم واحد إلى الأبد"، فعلمت بما لا يدع مجالًا للشك أنه سيلقى نجاحًا كبيرًا، يذكر الكتاب رياضيين ومدربين وأفرادًا من العائلة وأسرارا خاصة، حتى إن "نوردستورم" اتهمت بشكل ضمني أحد مدربيها بالاعتداء عليها جنسيًا، عندما عبرت أمام شارع "كونجسفين" رن هاتفها:

- مرحبًا، أنا "دانيال كڤام"، هل اتصلت بي منذ قليل؟

- نعم، أنا "إيما رام"، شكرًا لمعاودة الاتصال بي، كنت أود السؤال عن سيدة قد أُرسلتَ لاصطحابها إلى مبنى التليفزيون في السابعة والثلث صباح اليوم، السيدة "نوردستورم" في حي "إيكبيرج"، ألم يكن أنت؟

- بلى، لكن السيدة لم تأتِ.

تجهم وجه "إيما".

- انتظرت خارج المنزل لمدة خمس عشرة دقيقة، لكنَّها لم تأتِ.

- ألم تتصل بها؟

- بلى، فعلت، ولكن تحول الخط على الفور إلى البريد الصوتي، هبطت من السيارة، وقرعت جرس الباب، ولكن لم يجب أحد أيضا، في النهاية غادرت.

شكرته "إيما"، وأغلقت الخط، وصلت إلى فيلا "نوردستورم" الضخمة بالقرب من شارع "كونجسفين"، أقيمت الفيلا على مساحة لا تقل بأي حال عن 400 متر مربع، مرفق بها جراچ ضخم مطلي بالأبيض، وأمامه تكدست مواد بناء بلاستيكية، وصناديق بنية كرتونية مضغوطة، وبقايا تغليف من مخلفات أعمال تجديد البوابة، كانت بوابة الجراچ مفتوحة؛ مما جعل "إيما" تعتقد أن "نوردستورم" قد ذهبت بسيارتها إلى مكان ما باكرًا هذا اليوم، أو في الليلة السابقة، ويبدو أنها غادرت فجأة أيضًا، إن أضواء الإعلام المسلطة عليها، كما أوضح "أموند زيمر"، قد تصيب أي شخص بالانزعاج والسأم، حتى ولو كان معتادًا على وجودها، تقدمت عبر الممر المؤدي إلى المنزل، ووقفت أمام الباب الأمامي، قرعت الجرس، لم تلقَ إلا صدى الرنين من خلف الباب، لا يوجد أحد، حاولت مرة أخرى بلا جدوى، تراجعت إلى الوراء، وحدقت في نوافذ الطابق العلوي، لم يكن هناك أحد يستطلع الطارق من وراء الستائر، لم تسمع أي صوت أيضا، قرعت جرس الباب مرة أخرى، ولم تسمع صوت أي شخص بالداخل، ألهمها شيء ما أن تدير مقبض الباب، فهالها أنه كان مفتوحًا، تركت المقبض، لكن الباب استمر بالانزلاق مفتوحًا ببطء، خطت إلى الداخل مُستطلعة الرواقَ الفسيحَ ذا البلاط البني الداكن خلف الباب، من بعيد رأت أشياء غريبة، شظايا زجاج متناثرة على الأرض أمام إطار مرآة كبيرة فارغ، حامل المعاطف الخشبي ساقطًا هو الآخر، توقفت "إيما"، ونادت:

- "سونيا"؟!

لم يرد أحد، تردد صوت وقع أقدامها فوق أرضية الرواق المبلطة في أرجاء المنزل، صاحت من جديد بصوت مرتعش:

- مرحبًا.

لم يمنعها خوفها من المجازفة والتقدم إلى الداخل، دلفت إلى قاعة واسعة ذات بلاط مربع على شكل رقعة شطرنج كبيرة، تقدمت بحذر، دون أن تطأ فوق شظايا زجاج المرآة المكسورة على الأرض، السقف عالٍ، والمصابيح مضاءة، في وسطها ثريا ضخمة، وتنتهي القاعة بِدَرَجٍ يؤدي إلى الطابق العلوي، واصلت النداء على "نوردستورم"، ولم تلق أي أحد، دخلت المطبخ، كان راقيًا جدًا وجميلا، الأسطح نظيفة براقة، والموقد والثلاجة مكسوَّان بألوان فضية لامعة، والأرضية مغطاة بالبلاط المربع الداكن نفسه، في أحد الجوانب خزانة مليئة بزجاجات النبيذ، فوق الطاولة الضخمة أزهار ملونة، وبجانبها نسخة من كتاب: "رقم واحد إلى الأبد"، صاحت "إيما" باسم "نوردستورم" ثانيةً، ولكن لم تسمع شيئًا، أو... نعم، لقد سمعت شيئًا، تبعت الصوت من المطبخ إلى غرفة المعيشة، كان التليفزيون مفتوحًا على قناة رياضية ما، في وسط الشاشة ورقة معلقة بشريط لاصق مكتوب عليها رقم: "1".

وقفت "إيما" تنظر إليه لبضع ثوانٍ وفكرت:"هذا شيء غريب". التقطت جهاز التحكم وأطفأت التليفزيون، ومباشرةً حلَّ على المنزل صمت رهيب، بصعوبة بالغة نادت:

- "نوردستورم"؟

ثم نادت مرة أخرى بصوت أعلى، وما من رد، شعرت فجأة بأنها لا تريد أن تبقى في هذا المنزل، عليها أن تغادر وبسرعة، جرت خارجة، فانزلقت قدماها فوق السجادة الكبيرة في الرواق، لكنها لم تسقط، أرادت النظر إلى الوراء لترى ما إذا كان شخص ما يلاحقها أو يراقبها، لكنها لم تفعل، في الخارج استطاعت أن تتنفس من جديد، أغلقت الباب خلفها، ووقفت حائرة لا تدري ماذا تفعل، ظهرت قطة من تحت شجيرة قريبة، ومرت بجانب باب المنزل، التقطت "إيما" هاتفها، واتصلت بـ"كاسبر".

"كاسبر بيرنجبو" هو صحفي دنماركي، التقت به "إيما" في ندوة عن الصحافة الرقمية في مدينة "جوتنبرج" منذ أشهر، يعمل منذ سنوات في قسم "الجريمة" بوكالة الأنباء الشهيرة "ريتزو"، قال "كاسبر" بلهجته الدنماركية الرخيمة:

- "إيما رام"، يا لها من مفاجأة!

- أهلًا "كاسبر"، هل أنت مشغول؟

- لم أعد كذلك منذ سمعت صوتك.

ابتسمت "إيما"، واحمَّرت وجنتاها خجلًا، قال "كاسبر":

- سعيد جدا باتصالك، لقد مر وقت طويل على آخر حديث بيننا.

- فعلًا.

- لقد قضينا وقتًا رائعًا، أليس كذلك؟

تذكرت "إيما" شعره الأسود المموج، وابتسامته الجذابة، وعضلات جسده، وتذكرّت ذلك الصباح عندما نهضت يعتريها إرهاق السهر والفتور اللذيذ المغري بالبقاء في الفراش، قالت:

- نعم، كثيرًا، في الحقيقة أحتاج لمساعدة بسيطة أو نصيحة.

- عن أي شيء؟

- هل تعاملت من قبل مع حالات اختفاء؟

- في الواقع، لدينا قضية اختفاء كبيرة هذه الأيام في الدنمارك، اختفى لاعب كرة قدم شهير منذ أكثر من أسبوع، ربما سمعت عنه؟

لم تسمع عنه "إيما"؛ لأنها لا تهتم كثيرًا بكرة القدم، استطرد "كاسبر":

- لماذا تسألين؟

لم تكن "إيما" واثقة ماذا يمكنها أن تخبره بالضبط، لذلك لم تذكر اسم "نوردستورم"، واكتفت بأن تقول أنها نجمة معروفة، أخبرته عن عدم ظهورها في اللقاء التليفزيوني وعن منزلها الفارغ والأبواب المفتوحة، قالت:

- أعتقد أن شيئًا ما قد أصابها.

صمت "كاسبر" للحظات، تخيلته "إيما" جالسًا على مكتبه يداعب خصلات شعره، قال:

- أظن أن عليكِ الاتصال بالشرطة، وعليكِ أيضًا إخبارهم أنك دخلتِ المنزل دون إذن، أخشى أنه لو لم تذكري ذلك لهم أن تُعرّضي نفسك لمشكلة أكبر فيما بعد، نظرت "إيما" -والتي كانت ما زالت أمام المنزل- إلى أعلى علَّها ترى وجه "سونيا" عبر إحدى النوافذ، لقد كان "كاسبر" محقًا بلا شك، أضاف:

- ستأخذ الشرطة الأمر على محمل الجد خاصةً وأنها شخصية مشهورة.

- أنت محق، شكرًا لك.

- عفوًا.

صمت لثانيةً ثم قال:

- بعيدًا عن ذلك، كيف حالك؟

- على ما يرام.

- ألا تفكري في المجيء إلى كوبنهاجن قريبًا؟

ابتسمت "إيما":

- لا أعتقد ذلك.

- هذا مؤسف.

قالت "إيما" لنفسها: "فعلًا مؤسف".

- عليَّ أن أذهب الآن.

شكرته ثانيةً على مساعدته، وأنهت المكالمة، أغلقت عينيها للحظات وهزت رأسها، وهي تفكر: "يا إلهي، يا للغباء، دخولي المنزل هكذا كان تصرفا متهورا"، بدت لها فكرة الذهاب إلى كوبنهاجن ورؤية "كاسبر" رائعة فعلًا، لكن أين ستمكث في كوبنهاجن، ارتفع ضجيج الازدحام المروري في شارع "كونجسفين"، فبدد كل تلك الأفكار، قالت لنفسها: "حسنًا، لا بأس"، أخذت نفسًا عميقًا، ثم أخرجت الهاتف، وطلبت الشرطة.