قصيدة إسرائيلية في غزة

قصيدة الشاعر يهودا عميحاي نجحت في تقبّل الطلاب الفلسطينيين لها بينما فشلت كل خطابات السياسيين وأين في غزة المكان الأكثر ألما وضررا من الغطرسة الإسرائيلية وخطاب حماس الأجوف.
هل بمقدور أي من الأنظمة السياسية امتلاك ذريعة منع نص شعري لمجرد أنه لشاعر إسرائيلي؟ إذا كانت توجد مثل تلك الأسباب على ضعفها، هذا يعني توقف نشرات الأخبار عن بث أي خبر مصدره إسرائيل

في زمن ما كانت خطورة الكتاب لا تقل عن خطورة العبوة الناسفة اليوم. وبغض النظر عن طريقة التفكير بالنسبة إلى الأنظمة السياسية بشأن الكتاب في ما مضى. لكن هل كان يستحق ذلك العناء المكلف للسلطات آنذاك، يبدو هذا السؤال مفيدا للغاية ونحن نتحدث اليوم في عصر رقمي مفتوح عن إجراءات فعلية لحكومات عربية في الاستمرار بالمنع في زمن مقتل حارس البوابة أصلا.

لا يوجد أي معنى لمنع ومصادرة كتاب، بغض النظر عن مضمونه، غير قمع حرية التفكير والكلام. فما بالك بقصيدة؟ تأثير النص هنا يكتفي بعمقه التعبيري والثقافي ولا يمكن تحميله أكثر من ذلك، باعتباره عبوة ناسفة محرضة على العنف.

عادة ما يتم ربط فكرة المنع للنصوص العبرية الأدبية منها والسياسية، مع تاريخ النظرة السياسية العربية حيال إسرائيل ككيان لا يمكن القبول به في إجراء حكومي يحول دون تقديم النتاج الفكري والأدبي للقارئ العربي.

اليوم عندما أطالع كتاب “العاقل تاريخ مختصر للنوع البشري” لعالم الاجتماع الإسرائيلي يوفال نوح هراري، مثلا، لا أفكر بإسرائيلية المؤلف أو يهوديته بقدر اهتمامي بالفكر الكامن في نص هذا الكتاب. بالمناسبة، النقمة الحكومية داخل إسرائيل على أفكار هراري تفوق قرارات منع ومصادرة كتبه في البلدان العربية. وتلك مفارقة تراجيدية يعيشها عالم الاجتماع البارع، عندهم وعندنا!

كان الموسيقار العراقي اليهودي صالح الكويتي لا يتوقف عن سماع الإذاعة العراقية من منزله المتواضع في تل أبيب، ويتأسى بمرارة عندما يستمر بث ألحانه بأروع الأصوات العراقية من دون ذكر اسمه، تحت ذريعة أنها من الفلكلور العراقي، بينما ملحنها الذي هاجر إلى إسرائيل مازال حيا آنذاك. لم يكن بمقدور الإذاعة العراقية منع ألحان صالح الكويتي بأصوات سليمة مراد وزكية جورج وعفيفة إسكندر… لأنها تؤرخ لتأريخ من الولع والوله العراقي بالغناء، وكان يتم التغاضي عن اسمه لكونه هاجر إلى إسرائيل، بقي صالح الكويتي يعيش غصة مصادرة اسمه في الإذاعة العراقية حتى وفاته عام 1986.

فهل بمقدور أي من الأنظمة السياسية اليوم امتلاك ذريعة منع نص شعري لمجرد أنه لشاعر إسرائيلي؟ إذا كانت توجد مثل تلك الأسباب على ضعفها، هذا يعني توقف نشرات الأخبار عن بث أي خبر مصدره إسرائيل. دعك من الموقف السياسي، لك الحق بما تشاء كيف تنظر إلى إسرائيل. لكن لا تمنعني من قراء كتاب لمؤلف إسرائيلي، ولا تغمرك السعادة لأنني سأفكك مضمون ذلك الكتاب عندما أكتب عنه. كما لا تعبر عن كراهيتك لي لأنني سأبدي إعجابي بمتن الكتاب!

لم تكن مثل هذه المعادلة قائمة في الضفة الإسرائيلية، حتى وإن كان ينظر بازدراء لقصائد محمود درويش مثلا، فقد تحولت قصيدته “عابرون في كلام عابر” إلى موضع غضب إسرائيلي حينها، لكن لم يكن بمقدور السلطات مصادرة القصيدة أو منع تداولها عن القراء. بل إن التطرف الإسرائيلي في محاصرة موسيقى ريتشارد فاغنر المفضل بالنسبة إلى هتلر يفوق أيا من قصائد درويش، مع ذلك توجد جمعية إسرائيلية للدفاع عن موسيقى فاغنر في مواجهة عدها من المحرمات التي تصنف ضمن كراهية السامية، بيد أن فاغنر توفي قبل أن توجد إسرائيل!

يقول المحامي جوناثان ليفني رئيس جمعية فاغنر في إسرائيل "نحن لا نذيع آراء هذا المؤلف الموسيقي، وإنما نذيع موسيقى رائعة ألفها". وأضاف ليفني الذي كان أبوه أحد الناجين من الهولوكوست "من لا يريد الاستماع إلى الموسيقى، فليسكت المذياع". يمكن أن نعيد نفس الكلام بوجه من يريد منعي من مطالعة رواية إسرائيلية. ألا يقرأها لكن لا يمنعها عني.

اليوم لدينا قصة مثالية وميدانها ليس أي دولة عربية، وإنما قطاع غزة. مصدرها رفعت العرعير الأستاذ في كلية الآداب في الجامعة الإسلامية في مدينة غزة. عندما وزع نصا شعريا على طلبته من دون أن يذكر اسم الشاعر: على سطح منزل في البلدة القديمة/ الغسيل معلق في ضوء الشمس في وقت متأخر/ الملاءة البيضاء لعدوتي/ منشفة الرجل أيضا لعدوي.

لم تكن تلك القصيدة التي تجسد مشهدا مرسوما من ضواحي مدينة القدس القديمة معروفة للطلبة في تلك الجامعة. وعندما سأل الأستاذ تلاميذه بعد أن وزع عليهم النص لتحليل مضمونه. لمن تلك القصيدة، هل تعرفون؟

أجمعت كل الإجابات على أنها لشاعر من القدس المدينة التي طالما اعتزوا جميعا بها، ويحلمون بزيارتها مع استحالة قدرتهم على مغادرة قطاع غزة؟ وبعضهم عبر عن توقعه أنها لشاعر فلسطيني من القدس يحدق من بعيد لحبل غسيل في منزل إسرائيلي. وقالت طالبة أخرى ليس بمقدور أي إسرائيلي أن يكتب بمثل هذا الدفء عن القدس، إنها بالتأكيد لشاعر فلسطيني!

لكن الصدمة كانت مضاعفة عندما أخبرهم الأستاذ أنها للشاعر الإسرائيلي الراحل يهودا عميحاي. ارتفع الضجيج في المدرج بين الطلبة. حار الطلبة وكان جميعهم من الفتيات وهموا مع أنفسهم بمراجعة إجاباتهم عن الشاعر الفلسطيني الذي صار إسرائيليا.

يهودا عميحاي مولع باسطح القدس
يهودا عميحاي مولع باسطح القدس

ذلك الدرس الذي حصل في إحدى قاعات الجامعة الإسلامية في غزة سيهشم الصورة السائدة بأن سكان غزة لا يتفاعلون إلا مع الأخبار التي تتحدث عن الصواريخ الإسرائيلية العمياء، وأن سكان إسرائيل لا ينظرون إلى مناهج التعليم الفلسطينية إلا بكونها نصوصا للتحريض الإرهابي. قصيدة عميحاي الذي يعد من بين أهم المؤثرين في تاريخ الشعر الإسرائيلي، فندت تلك الصورة السائدة. هناك ما هو أهم يمكن أن نفهمه عن الآخر عند مطالعة مدونته الأدبية والفكرية.

ذلك ما وضحه الأستاذ رفعت لطلبته بأن قصيدة القدس لعميحاي تعد مثالا على إنهاء الانقسام بين الأفراد بغض النظر عما إذا كانوا فلسطينيين أو إسرائيليين، مثلما تمثل القدس المدينة المثالية التي تجمع الجميع بغض النظر عن الدين والمعتقد. مثل هذا الكلام فشل كل السياسيين في إقناع الناس به، إلا أن الشعر وحده نجح وأين في غزة المكان الأكثر ألما وضررا من الغطرسة الإسرائيلية وخطاب حماس الأجوف.