كريم نايت أوسليمان يقدم إعادة قراءة لمحمد ديب

أوسليمان يدخل بالقارئ إلى جوهر الهوية الجزائرية من خلال ترجمته لمقتطفات مختارة من نصوص محمد ديب من الفرنسية إلى العربية.

باريس - أثرى الكاتب الجزائري كريم نايت أوسليمان المقيم في باريس المكتبات بترجمة مختارات من نصوص كتاب "مقطوعات شعرية" لمواطنيه الأديب الراحل محمد ديب، ترجمها في 112 صفحة من الفرنسية إلى العربية.

ويقول أوسليمان في تدوينة نشرها على صفحته بفيسبوك إن "صدور كتابي 'مقطوعات شعرية' والذي ترجمت فيه من الفرنسية إلى العربية مقتطفات مختارة من نصوص محمد ديب كخطوة أولى قبل ترجمتها للأمازيغية، وذلك للولوج مع القارئ لجوهر الهوية الجزائرية الذي يعبر عنه كتابنا باختلاف لغات أقلامهم وألسنتهم"، متابعا "أود فقط أن أشكر الإخوة في الأردن طاقم دار الآن للنشر والتوزيع على هذه الطبعة الجميلة، كما أشكر صديقي الكاتب والمترجم الهواري غزالي الذي لولا مساعدته ما كان لهذا الكتاب أن يرى النور".

ويوضح أوسليمان أن الهدف من هذه الترجمة أن تقدم قراءةً أو إعادة قراءة محمد ديب، و"التماس طريق العودة" نحو الثقافة والهويّة اللتين تعرّضتا لمحاولات تدميرهما، وهذا "أحد أصعب التحديات التي تواجه بلدان ما بعد الاستعمار وأكثرها تعقيدا".

ويضيف "لقد تمَّ انتزاع الاستقلال على حساب الدم، لكن الوضع الحالي الذي تعيشه معظم البلدان المستعمَرة سابقا يُظهر أن الاستقلال لا يمكن أن يكون غايةً في حدّ ذاته، بل هو رحلة مستمرة في درب تحرير الإنسان".

وتؤكد المقطوعات المختارة في الكتاب فكرة المقاومة التي حضرت بقوة في نصوص محمد ديب، سواء بشكل مباشر أو رمزي، من مثل حديثه عن لعبة "الوالبيتشاك" الشعبيّة التي انتشرت في الجزائر خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي، ويقال إن الإدارة الفرنسية للبلديات كانت قد منعت الأطفال الجزائريين من لعب كرة القدم في الملاعب إلى جانب أطفال المستعمِرين الأوروبيين، فتمّ اختراع هذه اللُّعبة ردا على ذلك.

يقول ديب في قصيدة له "فَلْنَذهبْ بالبيتشاكْ، تْشَاك، تْشَاك إلى حيثُ نلعب سأَجلُبُ لك الشَّعيرَ والقمح يا حجَرَ الرَّحى العظيم يا أيَّتُها القيثارةُ - النَّحلة!".

وتنحاز نصوص محمد ديب للقضايا الإنسانية الكبرى، فتتحدث عن الحرّية، والحرب، والحبّ، والتهجير الذي ذاق الشاعر مرارته، إذ يقول "يجلس كأنَّه غريبٌ واضعا يديه على الطاولة بمجرّد النظر إليه ندرِكُ أنَّه طالبُ لجوء وعذر". وتستمر هذه الصورة الدرامية المليئة بالرموز والدلالات بقول الكاتب "يهشِّمُ الخبز الذي نضج فوق نارٍ لم يقم بإعدادها بنفسه لملمَ الفُتات في النهاية ليحملَها للعصافير".

وفي عدد من القصائد ينتهج محمد ديب أسلوبا حواريا متأثرا بالسرد، ومنه قصيدته التي تتضمن حوارا بين فتى وفتاة، يكشف عن فهم عميق للوجود وفلسفته، ومنها "تقول الفتاة: أنت لا تعرف ما أعرف قال: لا كان الفتى يفضِّل المشي ويتهيّأُ كي يكون وسيما لقد أرادت كلَّ شيء سوى أن تمشي تقول: إنَّه لشيءٌ جميلٌ والفتى من بعيد، يقول: مثلُ ماذا؟ مثلُ الكثير من الأشياء يقول وهو أكثرُ بعدا: مثل ماذا بالضَّبط؟ لن تعرف، تقول، ثمَّ تصرخ يواصل الفتى السَّير ويقول: لن أعرف ذلك". هذا البعد الفلسفي مطروح في معظم المختارات المترجمة، في إشارة إلى السمة الأبرز فيما قدمه محمد ديب وهو يتأمل ما حوله محيلاً كل المفردات التي يلتقطها إلى إشارات ورموز عميقة.

محمد ديب
عبر الحياة روائيا و شاعرا ومناضلا سياسيا

"لا روح تحيا هنا تحسَّسَ وجهَه وقال: هذا أنا لم يعد يعرف ما الذي افتقدهُ وما الذي ضاع". هذا البعد التأملي الوجودي يفسر اشتمال العديد من المقتطفات الشعرية على مفردات تؤنسن الطبيعة، وترسم المشاهد على مهل، وتبثّ فيها المعاني التي تدفع للقراءة والتأويل، والتمعن في صور فنية غير مألوفة "في خميلة نهاريّة إقليمُ صُدْفَةٍ اهتزازٌ خفيفٌ للأوراق أو نارٌ مشتَّتةٌ في الرّيح والشُّعلة الأخرى التي تجمعُ عُمراناً من الضَّباب وهي بعيدةٌ عن أمواجِ البحر لعلَّها تستقبلني يوماً ما". ولعل الارتباط بالأماكن، وما يشيع من أجواء الحنين والغربة في القصائد، قادم كما يوضح المترجم من أن عمل محمد ديب ارتبط ارتباطا وثيقا بالمشهد الجزائري سواء من حيث جانبه التاريخي أو بلاغته الشّعرية.

وتنقل وكالة الأنباء العمانية عن أوسليمان قوله "لقد تطوَّر المؤلِّف وتطوَّر عملُه، وتمَّ له ذلك في فضاءاتٍ عدَّة، فضاءٍ جغرافيٍّ، وفضاءٍ بشريٍّ، وفضاءٍ للتَّعبير الأدبي، وفضاءٍ خاصٍّ باللُّغة الفرنسيَّة، أينَ بُنِيَ النَّصُّ ليمنح وجودا لمؤلِّفٍ يقف في مواجهةٍ أمام تاريخ الجزائر المرعب، يحاورهُ ويسائلُهُ، على مرأى من أعين القُرَّاء".

ومحمد ديب (21 يوليو/تموز 1920 في تلمسان - 2 مايو/آيار 2003 في سان كلو في فرنسا)، هو كاتب أديب وروائي جزائري يكتب باللغة الفرنسية في مجال الرواية والقصة القصيرة والمسرح والشعر، وهو من روّاد الأدب الفرنكوفوني في بلده، كما في البلدان المغاربيّة.

عبر محمد ديب الحياة روائيا و شاعرا وقصاصا ومسرحيا وكاتب أدب أطفال ومناضلا سياسيا وثقافيا إنسانيا. عشرات الروايات ومثلها المجاميع الشعرية والقصصية هي حصيلة مسيرته الأدبية، ستة عقود من الكتابة.