كل لبنان قلب لبنان

لبنان الشراكة الوطنية يا سيد حسن. لبنان الذي اختار الشيعة البقاء فيه وعدم الانضمام إلى سوريا لدى نشوء نظام المتصرفية ولدى إعلان دولة لبنان الكبير.

أخيرا بقها السيد حسن نصرالله: "الجنوب والبقاع والشمال وعكار أطراف تـم إلحاقها بلبنان الكبير عام 1920" (09 أيار/مايو 2022). لكن سماحته تناسى أمرين: الأول أن هذه المناطق استعيدت ولم يتم السطو عليها وإلحاقها بالقوة بلبنان. والثاني، وهو سابق ومتمم للأول: أن المجلس التمثيلي اللبناني، المتعدد الطوائف المسيحية والإسلامية، اتخذ في أيار 1919 قرارا طالب به مؤتمر الصلح المنعقد في باريس "الاعتراف باستقلال لبنان في حدوده الطبيعية".

إن التشكيك بوحدة الأمة اللبنانية يوحي بأن الكيان اللبناني مصطنع ومركب وفاقد الشرعية التاريخية ومحلل تفكيكه. نفهم الآن أكثر لماذا يرفض حزب الله وسوريا ترسيم الحدود اللبنانية/السورية وضبطها. إذا كان الأمر كذلك، لــم ولمن استشهد أطيب شباب الجنوب والبقاع؟ وما قيمة مقاومتك، يا سيد حسن، لتحرير الجنوب والبقاع الغربي؟ وما لك ولنا بعد بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا؟ وما لك ولنا بمربعات النفط والغاز في بحر الجنوب؟ أرجع هذه المناطق إلى سوريا لتتمتع بربوع الشام ونسيم البردوني، ودع سوريا تقاوم في سبيلها مثلما قاومت لاسترجاع الجولان.

الحقيقة التاريخية الموثقة، يا سيد حسن، وأنت ونحن أرباب مقاومة، هي أن هذه المناطق لبنانية، واستعادها لبنان نهائيا سنة 1920 بعدما سلختها عنه الفتوحات الإسلامية والسلطنة العثمانية وألصقتها عقابيا واعتباطيا بولاية عكا تارة وبولايتي حلب ودمشق تارة أخرى لضرب النزعة الاستقلالية اللبنانية. فهل تعترف، يا سماحة السيد، بشرعية الاحتلالات أم بشرعية لبنان ودستوره وحدوده التاريخية؟ وإذا كنتم تشككون في تصحيح الخطأ الذي غامرت الكنيسة المارونية و"اقترفته" ووحدت لبنان، فهل تنوون مراجعة هذا التصحيح في مؤتمر تأسيسي ما؟ نحن نعتبركم لبنانيين بالهوية التاريخية لا بالضم الظرفي، وبالتضحيات لا بالوجود فقط.

هذه الأطراف، بغض النظر عن التداول السكاني فيها، هي لبنانية قبل الجبل الذي أنتمي إليه. فالكتب المقدسة والتاريخية والجغرافية، قبل المسيح وبعده، تغنت بسهول الجنوب وقمم الجبال الشرقية أكثر مـما تغنت بسلسلة جبال لبنان الغربية. عن تلك الجبال والقمم تحدث الأنبياء والرسل، وإلى الجنوب الفينيقي/الكنعاني أتى يسوع المسيح. لكن ما جرى هو أن أهل الجبل، أبناء المتصرفية، آمنوا بوحدة لبنان لا بتقسيمات الاحتلالات، فطوروا هذا الوطن وحدثوه وحضروه ونـموه ونــوروه ورنموا أناشيده وافتخروا بأبجديته ورفعوا رأسهم بعظمة قانا وصور وصيدا وبعلبك وطرابلس، ولم يـميزوا بين جبل وأطراف. أما أبناء الأطراف، فقد حضهم أعيانهم آنذاك، أتباع ولاة عكا والشام وحلب وإسطنبول، على التشكيك في انتمائهم إلى هذه المناطق الحدودية اللبنانية. في أذني مجد عبارة جبران خليل جبران: "لو لم يكن لبنان وطني لاتخذت لبنان وطني". فكيف يا سيد حسن يخالـجك الشك في وحدة الأراضي اللبنانية وأنت من صميم هذا الوطن؟ الذين يفكرون بانتزاع الجنوب "فشروا"...

تعيدنا يا سيد حسن إلى نقاش عقيم طويناه مع انسحاب السوري والإسرائيلي ومع التزام اتفاق الطائف بانتظار تطويره. ظــننا أننا صرنا في زمن "لبنان الوطن النهائي"، و"لبنان أولا وأخيرا"، ولبنان الذي روى شهداؤنا وشهداؤك أرضه، ولبنان الصامد والمقاوم. نسينا تعابير الأطراف والجبل والبقاع العزيزي وطرابلس الشام، ونذرنا أنفسنا للبنان الـــ 10452 كلم مربع، للبنان الشراكة الوطنية، للبنان الذي اختار الشيعة البقاء فيه وعدم الانضمام إلى سوريا لدى نشوء نظام المتصرفية ولدى إعلان دولة لبنان الكبير. يومها اختار الشيعة لبنان من دون أن تكون أي بندقية مصوبة على صدورهم.

ما نخشاه هو أن تكون استعادة تعابير الضم والفرز والسلخ والإلحاق مقدمة لإعادة النظر في كيان لبنان بغية تركيب كيان شيعي/علوي يـمتد بين لبنان وسوريا ويستوعب بعض الأقليات والنازحين السوريين المحددي المذهب. أهذا هو موضوع المؤتمر التأسيسي الذي يتلمسه حزب الله منذ سنوات؟ عمليا، إن حزب الله، من خلال أدائه، يخير اللبنانيين بين قبول فدرالية لبنانية، أو تقبل فدرالية لبنانية/سورية، أو الإقرار بهيمنته على الدولة بأكملها، أو الانكفاء نحو متصرفية ما ليتربع هو على الجنوب والبقاع. وتقضي الموضوعية الاعتراف بأن مجموع هذه التشكيلات الدستورية تراود فئات لبنانية عدة سئمت الحروب والأزمات والمآسي التي رافقت مسيرة لبنان الكبير. فرغم التقدم الذي حصل على صعيد الوحدة الوطنية، خصوصا بعد سنتي 1982 و2005، لا تزال الثقة ضعيفة بمناعة نهائية هذا التقدم نظرا لارتباط فئات لبنانية متعددة الطوائف بالمحاور الخارجية.

الجنوب هو قلب لبنان النابض لا طرفه الزائد. هو جرح لبنان النازف منذ قيام إسرائيل على حدوده. لم تبدأ مآسي الجنوب مع سلاح حزب الله. يستعيد الجنوب قواه الوطنية حين يعود إلى الدولة ويتيح للدولة أن تعود إليه. منذ الستينات أمسى الجنوب مقاطعة مرتبطة دفتريا بمساحة دولة لبنان، لكنه بسبب الانقسامات الطائفية ـــ لا بسبب "المارونية السياسية" وضعف الدولة ـــ وقع تحت الاحتلال الفلسطيني فالسوري فالإسرائيلي إلى أن تحرر جغرافيا، فبات امتدادا عقائديا وعسكريا ومجتمعيا وولائيا للمشروع الإيراني المنفصل عن لبنان وعن الصراع العربي/الإسرائيلي. الدولة اللبنانية في الجنوب زائر في ضيافة حزب الله.

وغياب الإنماء عن الجنوب، في ما مضى، كان مسؤولية زعمائه الشيعة الفاعلين في مؤسسات الدولة أكثر من مسؤولية الدولة اللبنانية عموما. فبموازاة "المارونية السياسية" ازدهرت "الشيعية السياسية" و"السنية السياسية" و"الدرزية السياسية". وحين كان الجنوب يشكو من ضعف الإنماء، كانت سائر مناطق لبنان، الجبل وبيروت ضمنا، تشكو منه أيضا. والنمو الذي شهدته العاصمة وضواحيها بما فيها الضاحية الجنوبية، كان ثمرة مبادرات القطاع الخاص وليس نتيجة اهتمام الدولة.

بعيدا من استعادة سجالات الإنماء، يظل ازدهار الجنوب، وكل منطقة لبنانية، رهن عدة عناصر أساسية: بسط سلطة الدولة دون سواها، تسليم الأمن القومي للجيش اللبناني، اعتماد اللامركزية الموسعة، تحييد لبنان عن الصراعات، ووضع خطة إصلاح وإنماء متكاملة ومتوازية تتوزع على جميع مناطق لبنان. عسى أن تكون الانتخابات النيابية فالرئاسية نقطة انطلاق جديدة للبنان التعددي.