لا حقيقة في العراق إلا الفساد

العراق اليوم بلد ضائع بشعب لا يدرك درجة بؤسه.

حزبيو "الدعوة الإسلامية" الذين يحكمون العراق منذ أكثر من اثني عشر عاما هبطت عليهم السلطة بمظلات أميركية.

موالي إيران عقيدة وسياسة لم يخيبوا أمل المحتل الأميركي في السير بمشروعه التدميري إلى محطة النجاح الأخيرة. بل أن نجاحهم في تنفيذ ذلك المشروع كان فوق التوقعات وفاق الحلم الأميركي بدرجات.

العراق اليوم بلد ضائع بشعب لا يدرك درجة بؤسه.

لا يعرف الناس هناك أي مستقبل ينتظرهم وفي أي منعطف يكمن الوحش الذي سيلتهمهم وينهي معاناتهم التي طال أمدها وتعددت أوجهها.

أجيال من الفقراء الاميين الذي يجهلون أية هاوية سحيقة سقط فيها بلدهم. ما يعرفونه ينحصر في ما صار يضربهم برشقه كل لحظة من أهوال صغيرة بالمقارنة بحقيقة الأهوال التي ضربت بلادهم.
ثروات النفط الهائلة يعرفونها بالأرقام المجردة فقط. يسمعون بها من غير أن يلمسوا أثرا لها في حياتهم المباشرة.

أنباء الفساد تحيط بهم من كل جانب.

الفساد هو الحقيقة الوحيدة التي تستجيب للحواس في العراق. كل شيء يصدر منه ويمر من خلاله ولا أحد يمكن أن يصل إلى هدفه إلا إذا كان فاسدا أو وضع يده في جيوب الفاسدين.

كل شيء في العراق زائف إلا الفساد.

كل مفردات العصر الحديث التي تم استيرادها على عجل زائفة. الديمقراطية، حقوق الإنسان، الحرية، الدستور، استقلال السلطات الثلاث، سلطة القانون، الانتخابات، المجالس البلدية، الأحزاب، وإلى آخر مفردة من مفردات القاموس الذي جرى تأليفه في الغرب عبر أزمنة متلاحقة.

دفع العراقيون ثمنا باهظا لشراء شيء لا قيمة له بالنسبة لهم. شيء اثبتوا عبر تجربة السنوات الماضية أنهم ليسوا مستعدين على تصريفه في حياتهم وهم أيضاً ليسوا قادرين على الدفاع عنه.

كان في إمكانهم أن يتخلصوا من الامر بجملة "لكم دينكم ولي دين".

جملة لا أظن أن الاميركان سيعجزون عن فهمها.

لو اعترف العراقيون أن توقهم إلى الحرية لا يعني أن في إمكانهم أن يصبحوا ديمقراطيين، لما حدثت كل تلك الكوارث التي عصفت بهم ولما حاق بهم الفساد من فوق ومن تحت ولما اخترقتهم آفة التطرف الطائفي التي طوت صفحتي حاضرهم ومستقبلهم وألقت بهم في غياهب الماضي.

لقد عُرف العراقي بالتطرف إلا في ما ندر في شؤون حياته اليومية. في عواطفه وأفكاره وأحلامه ورغبته في التغيير والإصرار على الخطأ وكرمه وقسوته. إنه كائن مبتلى بالمبالغة.

مثل ذلك الكائن لا يمكن أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى كائن ديمقراطي، يسبقه حياده إلى برامج السياسيين.
ولكن هل هناك سياسيون في العراق؟

قلة قليلة من الفئة التي انفتحت لها أبواب السلطة كانت على صلة بالمفهوم الحديث للسياسة. السياسيون نادرون في تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها وحتى اليوم.

لا يمكن لبلد عرف السياسة في تاريخه أن يقبل بانضمام قاطع طريق وقاتل مثل هادي العامري إلى الطبقة السياسية التي تحكمه. وحتى مفهوم الطبقة السياسية فإن استعماله لا ينطبق على سياسيي العراق.

سياسيو اليوم العراقي هم الأسوأ في تاريخه، بالرغم من أن العراق لم يكن يوما من الأيام مؤهلا لإنتاج مهنيين تنطبق عليهم المواصفات المعمول بها عالميا. ذلك لأنه لم يعرف الاستقرار ولم يكن التسامح واحدة من صفات أهله وقد أخذتهم الأحزاب من القبائل ليعودوا بها إلى أسوأ ما يمكن أن تتصف به القبلية من صفات.

حزبيو العراق هم عبارة عن قبائل متناحرة. لا يُستثنى منهم أحد.

الشيوعيون والبعثيون والاسلاميون.

كلما امتلك حزب السلطة اعتبرها غنيمة يستقوي بها على الآخرين ليقتلعهم من جذورهم. ولهذا كان اجتثاث البعث اختراعا عراقيا أصيلا ولم يكن فكرة أميركية وإن حاز رضا المحتل لما فيه من تأثير مدمر على مستقبل العلاقة بين العراقيين.  

كل شيء زائف في العراق.

وحده الفساد يمكن الاعتراف بصلابة حقيقته.       
إنه الحدث الذي لا يختلف من حوله العراقيون.

سلبا وايجابا يعترف الجميع بقوته التي لا يمكن مواجهتها. يمكنهم أن يكذبوا كل شيء. أن ينكروا كل شيء. غير أنهم يجمعون على تصديق حقيقة أن الفساد هو الذي يدير شؤون حياتهم اليومية وهو الذي يتحكم بطريقة نظرتهم إلى الزمن وهو الذي يميل بهم بين طرفي معادلتي التدين والعلمانية وهو الذي يسبقهم إلى أحلامهم ويزهر في مناماتهم.

الفساد ولا شيء غير الفساد هو مَن يصنع مصير العراقيين.