لا ماء في وجوه الفاسدين وعلى المتضرر اللجوء الى "تبليط البحر"

لا يمكن إقناع أي أردني بأن حادثة إكسبو غير مرتبطة بدائرة المحاسيب المحيطة بالحكومة والتي تضخمت خلال العقود الأخيرة الى مستوى يراه الناس على صفحات الجرائد ومواقع التواصل.
التنافس على الفساد بين كبار النافذين يتم على قاعدة "ما حدا أحسن من حدا"
ماذا يعني فقدان الثقة الشعبية بحكومة ما؟ لا يعني شيئا. ولا يؤدي الى نتائج ملموسة

خيط رفيع يفصل الإهمال واللامبالاة عن الفساد المقصود. ومثله خيط آخر لا يكاد يُرى بين سوء الإدارة وانعدام الثقة بالحكومات.
ما سمعه الناس وشاهده من داخل الجناح الأردني في معرض اكسبو دبي قبل ايام، يمثل إحدى النوافذ التي تنفتح بين الحين والآخر على مواطن الإهمال في المؤسسات الحكومية، وكيف تصبح المعلومات البديهية عن بلد ما غير معروفة لدى من يُفترض انهم يمثلون البلد.
"رام الله مدينة أردنية. والثورة العربية الكبرى انطلقت من سوريا وانتهت في اليمن". هذه المعلومات المغلوطة التي ينكرها ويضحك عليها تلميذ مدرسة في الصفوف الاساسية، قدمها موظفون في الجناح الأردني لمراسل قناة فضائية أردنية.
حسب الدراسات والتقارير الصادرة عن مؤسسات بحث محلية واجنبية، فإن الغالبية الساحقة من الأردنيين تعتقد ان اجهزة الحكم غير جادة في مكافحة الفساد والتقصير، وان الحكومات التي لا تخلو برامجها من التعهدات الصارمة بمحاربة الفساد، لا تزال محاطة بدائرة اصحاب المصالح إياها، المكونة من رجال الأعمال والأقارب والأنسباء والمحاسيب.
الكل يريد ان يكافح الفساد والإهمال الوظيفي في الاردن، بدءا من الملك والحكومة ومرورا بالأجهزة الأمنية وديوان المحاسبة. لكن ما يحدث يعاكس ذلك تماما ويعكس "الحصانة" التي بات يتمتع بها كبار المتهمين بالفساد والتربح.
المناصب الوزارية والوظائف العليا في الدولة لا تخرج عن الطبقة الاحتكارية المعروفة التي تحتاج احيانا الى تعيين شخصيات من خارجها لاعتبارات المحاصصة المناطقية او القبلية لكنها لا تسمح بتغيير التركيبة التقليدية المهيمنة على العمل العام.
مع مرور الوقت تعمقت ممارسات الفساد ووصلت الى قلب الدولة العميقة، حتى بات يُنظر الى التنفيعات خارج القانون على انها ساحة للتنافس بين المحاسيب وحقوق مكتسبة لابناء واقارب المسؤولين، على قاعدة "ما حدا أحسن من حدا".
وفي هذا، يتذكر الاردنيون كيف ان وزيرا سابقا للثقافة بعث قبل سنوات برسالة علنية الى رئيس الوزراء يحتج فيها على إنهاء خدمات ابنه وتعيين ابن رئيس الوزراء في "المنصب الذي يشتهيه". وقال الوزير السابق والشاعر المعروف، حرفيا ان "فلذات أكبادكم ليست أعز من فلذات أكبادنا".
توريث المناصب لم يغب يوما عن اي تشكيل حكومي او عن اي قائمة تعيينات في المناصب العليا والحساسة في الاردن الذي يحكمه نظام ملكي وراثي، ولا عجب فيه ان يتولى رئاسة الحكومة الجد والابن والحفيد.
في آخر المطاف، تكتفي الحكومة وأجهزتها بالتبريرات المعهودة على اعتبار ان المستفيدين يمثلون "خبرات مميزة" او "كفاءات نادرة" واحيانا يكون التبرير أقل خجلا، فيقال انهم أردنيون ومن حقهم تولي الوظائف العامة!
أما الرأي العام، فقد اعتاد على الغضب الذي تتوقعه ايضا أجهزة الحكم وتمنحه دائما بعض الاهتمام المفتعل الذي لا يقدم ولا يؤخر. ولكن في النهاية، تبقى الحال على ما هي عليه، وعلى المتضرر اللجوء الى "تبليط البحر"!
طوابير طويلة من الأردنيين الباحثين عن عمل في المؤسسات والدوائر الحكومية، تراقب ما يجري وتمتلئ حنقا وتنجرّ الى ما دون خطوط الفقر مع ضيق فرص العمل لدى شركات القطاع الخاص ايضا، في البلد الذي تبلغ نسبة البطالة بين شبابه حوالي خمسين بالمئة.
ماذا يعني فقدان الثقة الشعبية بحكومة ما؟ لا يعني شيئا. ولا يؤدي الى نتائج ملموسة. فالحكومات تعلم بأنها غير باقية وانها سرعان ما يتم تعديلها او تغييرها بصرف النظر عما يوجه اليها من انتقادات او ما ترتكبه من أخطاء.
لا يمكن إقناع أي أردني بأن حادثة إكسبو غير مرتبطة بدائرة اصحاب المصالح التي تضخمت خلال العقود الأخيرة الى مستوى يراه الناس على صفحات الجرائد ومواقع التواصل، من التعيينات في المناصب الرسمية الى عقود الشركات وما يرتبط بها من تنفيعات ومكافآت مالية.
الحكومة تعللت بضغط العمل في الجناح وأنهت التعاقد مع شركة الاستقبال المكلفة. وهذا واقعيا اقصى ما يمكنها فعله حتى لو كان الخطأ متصل مباشرة بجغرافيا الاردن وتاريخه الحديث، خصوصا "الثورة العربية الكبرى" التي قادها الشريف حسين بن علي، الجد الأكبر للملك عبدالله الثاني، وتمثل أحد مرتكزات الخطاب السياسي وشرعية الحكم في المملكة.
مع هذا، لن تكون مفاجأة لأحد إذا أعادت الحكومة التعاقد مع نفس الشركة للقيام بمهام مشابهة في معرض او فاعلية دولية. وذاك ما يجعل الناس تتساءل عمن فوّض الشركة لتمثيل البلد في معرض بحجم إكسبو دبي، ومن هم المستفيدون، ومن سيتحمل المسؤولية عن هذه الكوميديا السوداء.
اعتاد الاردنيون على ان الإهمال او التقصير لا تتبعه عقوبة احيانا ولا مسؤولية حتى لو كان مرتبطا بحياة الناس وصحتهم.
قبل اشهر، لقي ثمانية اشخاص حتفهم بسبب نقص الأوكسجين في وحدات معالجة مرضى كورونا داخل مستشفى حكومي. وتنحى وزير الصحة آنذاك وركزت الحكومة على أنه لم يستقل بل أقيل، على سبيل تحميله المسؤولية عما جرى.
لم يمر وقت طويل حتى فاز الوزير "المعاقَب" برئاسة الجامعة الأردنية، أعرق الجامعات في المملكة، وهو منصب يُنظر اليه اعتباريا وتاريخيا على أنه أهم من مجرد حقيبة وزارية عابرة في البلد الذي يشكل حكومة كل سنة تقريبا.